فصل: تفسير الآية رقم (148)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏145‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الالواح مِن كُلِّ شَئ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَئ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا‏}‏‏.‏

عطف على جملة ‏{‏قال يا موسى، إني اصطفيتك على الناس برسالتي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏ إلى آخرها، لأن فيها‏:‏ ‏{‏فخذ ما آتيتك‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏ والذي آتاه هو ألواح الشريعة، أو هو المقصود من قوله‏:‏ ‏{‏ما آتيتك‏}‏‏.‏

والتعريف في الألواح يجوز أن يكون تعريف العهد، إن كان ‏{‏ما آتيتك‏}‏ مراداً به الألواح التي أُعطيها موسى في المناجاة، فساغ أن تعرّف تعريف العهد، كأنه قيل‏:‏ فخذ ألواحاً آتيتُكها، ثم قيل‏:‏ كتبنا له في الألواح، وإذا كان ما آتيتك مراداً به الرسالة والكلام كان التعريف في الألواح تعريف الذهني، أي‏:‏ وكتبنا له في ألواح معينة من جنس الألواح‏.‏

والألواح جمع لَوْحَ بفتح اللام، وهو قطعة مربعة من الخشب، وكانوا يكتبون على الألواح، أو لأنها ألواح معهودة للمسلمين الذين سيقت إليهم تفاصيل القصة ‏(‏وإن كان سوق مجمل القصة لتهديد المشركين بأن يحل بهم ما حصل بالمكذبين بموسى‏)‏‏.‏

وتسمية الألواح التي أعطاها الله موسى ألواحاً مجاز بالصورة لأن الألواح التي أعطيها موسى كانت من حجارة، كما في التوراة في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الخروج، فتسميتها الألواح؛ لأنها على صورة الألواح، والذي بالإصحاح الرابع والثلاثين أن اللوحين كتبت فيهما الوصايا العشر التي ابتدأت بها شريعة موسى، وكانا لوحين، كما في التوراة، فإطلاق الجمع عليها هنا‏:‏ إما من باب إطلاق صيغة الجمع على المثنى بناء على أن أقل الجمع اثنان، وإما لأنهما كانا مكتوبين على كلا وجهيهما، كما يقتضيه الإصحاح الثاني والثلاثون من سفر الخروج، فكانا بمنزلة أربعة ألواح‏.‏

وأسندت الكتابة إلى الله تعالى؛ لأنها كانت مكتوبة نقشاً في الحجر من غير فعل إنسان بل بمحض قدرة الله تعالى، كما يفهم من الإصحاح الثاني والثلاثين، كما أسند الكلام إلى الله في قوله‏:‏ ‏{‏وبكلامي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏‏.‏

و ‏(‏مِنْ‏)‏ التي في قوله‏:‏ ‏{‏من كل شيء‏}‏ تبعيضية متعلقة ب ‏{‏كتبنا‏}‏ ومفعول ‏{‏كتبنا‏}‏ محذوف دل عليه فعل كتبنا أي مكتُوباً، ويجوز جعل ‏(‏مِن‏)‏ اسما بمعنى بعض فيكون منصوباً على المفعول به بكتبنا، أي كتبنا له بعضاً من كل شيء، وهذا كقوله تعالى في سورة النمل ‏(‏16‏)‏ ‏{‏وأوتينا من كل شيء‏}‏ وكل شيء عام عموماً عرفياً أي كل شيء تحتاج إليه الأمة في دينها على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا فرطنا في الكتاب من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 138‏]‏ علئى أحد تأويلين في أن المراد من الكتاب القرآن، وعلى طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم أكملتُ لكم دينكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ أي أصوله‏.‏

والذي كتب الله لموسى في الألواح هو أصول كليات هامة للشريعة التي أوحى الله بها إلى موسى عليه السلام وهي ما في الإصحاح ‏(‏20‏)‏ من سفر الخروج ونصها‏:‏ أنا الرب إلاهك الذي اخرجك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك ءالهة أخرى أمامي، لا تصنع تمثالاً منحوتاً، ولا صورة مّا مما في السماء، من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبُدْهن لأني أنا الرب إلاهك غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضيَّ واصنع إحساناً إلى ألوف من محِبّيّ وحافظي وصاياي، لا تنطق باسم الرب إلاهك باطلاً لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلاً، اذكر يوم السبت لتقدسه ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلاهك لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك واختك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك؛ لأن في ستة أيام صنع الرب السما والأرض والبحر، وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه، أكرم أباك وأمك؛ لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلاهك، لا تقتلْ، لا تزْننِ لا تسرق، لا تشهد، على قريبك شهادة زور، لا تشته بيت قريبك، لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته، ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك اه، واشتهرت عند بني إسرائيل بالوصايا العشر، وبالكلمات العشر أي لجمل العشر‏.‏

وقد فصلت ‏(‏في‏)‏ من الإصحاح العشرين إلى نهاية الحادي والثلاثين من سفر الخروج، ومن جملتها الوصايا العشر التي كلم الله بها موسى في جبل سينا ووقع في الإصحاح الرابع والثلاثين إن الألواح لم تكتب فيها إلاّ الكلمات العشر، التي بالفقرات السبع عشرة منه، وقوله هنا ‏{‏موعظة وتفصيلاً‏}‏ يقتضي الاعتماد على ما في الأصاحيح الثلاثة عشر‏.‏

والموعظة اسم مصدر الوعظ وهو نصح بإرشاد مشوب بتحذير من لحاق ضر في العاقبة أو بتحريض على جلب نفع، مغفول عنه، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏275‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فأعرض عنهم وعظْهم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏63‏)‏، وسيجيء قوله‏:‏ ‏{‏والموعظة الحسنة‏}‏ في آخر سورة النحل ‏(‏125‏)‏‏.‏

والتفصيل التبيين للمجملات ولعل الموعظة هي الكلمات العشر والتفصيل ما ذكر بعدها من الأحكام في الإصحاحات التي ذكرناها‏.‏

وانتصب موعظة‏}‏ على الحال من كل شيء، أو على البدل من ‏(‏من‏)‏ إذا كانت اسماً إذا كان ابتداء التفصيل قد عَقِبَ كتابة الألواح بما كلمه الله به في المناجاة مما تضمنه سفر الخروج من الإصحاح الحادي والعشرين إلى الإصحاح الثاني والثلاثين ولما أوحي إليه إثر ذلك‏.‏

ولك أن تجعل ‏{‏موعظة وتفصيلاً‏}‏ حالين من الضمير المرفوع في قوله‏:‏ ‏{‏وكتبنا له‏}‏ أي واعظينَ ومفصلين، فموعظة حال مقارنة وتفصيلاً حال مقدّرة، وأما جعلهما بدلين من قوله‏:‏ ‏{‏من كل شيء‏}‏ فلا يستقيم بالنسبة لقوله‏:‏ ‏{‏وتفصيلاً‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فخذها‏}‏ يتعين أن الفاء دالة على شيء من معنى ما خاطب الله به موسى، ولما لم يقع فيما وَليتْه ما يصلح لأن يتقرع عنه الأمر بأخذها بقوة‏.‏ تعين أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏فخذها‏}‏ بدلاً من قوله‏:‏ ‏{‏فخذ ما آتيتك‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏ بدلَ اشتمال لأن الأخذ بقوة يشتمل عليه الأخذ المطلق، وقد اقتضاه العود، إلى ما خاطب الله به موسى إثر صعقته إتماماً لذلك الخطاب فأعيد مضمون ما سبق ليتصل ببقيته، فيكون بمنزلة أن يقول فخذ ما آتيتك بقوة وكن من الشاكرين، ويكون ما بينهما بمنزلة اعتراض، ولولا إعادة ‏{‏فخذها‏}‏ لكان ما بين قوله‏:‏ ‏{‏من الشاكرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأمرْ قومك يأخذوا‏}‏ اعتراضاً على بابه ولمّا اقتضى المقام هذا الفصلَ، وإعادة الأمر بالأخذ، اقتضى حسن ذلك أن يكون في الإعادة زيادة، فأخر مقيّد الأخذ، وهو كونه بقوة، عن التعلق بالأمر الأول، وعلق بالأمر الثاني الرابط للأمر الأول، فليس قوله‏:‏ ‏{‏فخذها‏}‏ بتأكيد، وعلى هذا الوجه يكون نظم حكاية الخطاب لموسى على هذا الأسلوب من نظم القرآن‏.‏

ويجوز أن يكون في أصل الخطاب المحكي إعادة ما يدل على الأمر بالأخذ لقصد تأكيد هذا الأخذ، فيكون توكيداً لفظياً، ويكون تأخيرُ القيد تحسيناً للتوكيد اللفظي ليكون معه زيادة فائدة، ويكون الاعتراض قد وقع بيْن التوكيد والموكّد وعلى هذا الوجه يكون نظم الخطاب على هذا الأسلوب من نظم الكلام الذي كلّم الله به موسى حكي في القرآن على أسلوبه الصادر به‏.‏

والضمير المؤنث في قوله‏:‏ ‏{‏فخذها‏}‏ عائِد إلى الألواح باعتبار تقدم ذكرها في قوله‏:‏ ‏{‏وكتبنا له في الألواح‏}‏‏.‏ والمقول لموسى هو مرجع الضمير، وفي هذا الضمير تفسير للإجمال في قوله‏:‏ ‏{‏ما آتيتك‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏ وفي هذا ترجْيح كون ما صْدَق ‏{‏ما آتيتك‏}‏ هو الألواح، وَمن جَعلوا ما صْدَق ‏{‏ما آتيتك‏}‏ الرسالةَ والكلامَ جعلوا الفاءَ عاطفة لقول محذوف على جملة ‏{‏وكتبنا‏}‏ والتقدير عندهم‏:‏ وكتبنا فقلنا خُذها بقوة، وما اخترناه أحسن وأوفق بالنظم‏.‏

والأخذُ‏:‏ تناول الشيء، وهو هنا مجاز في التلقي والحفظ‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بقوة‏}‏ للمصاحبة‏.‏

والقوة حقيقتها حالة في الجسم يتأتّى له بها أن يعمل ما يشُق عمله في المعتاد فتكون في الأعضاء الظاهرة مثل قُوة اليدين على الصنع الشديد، والرجلْين على المشي الطويل، والعينين على النظر للمرئيات الدقيقة‏.‏ وتكون في الأعضاء الباطنة مثل قوة الدماغ على التفكير الذي لا يستطيعه غالب الناس، وعلى حفظ ما يعجز عن حفظه غالب الناس ومنه قولهم‏:‏ قوة العقل‏.‏

وإطلاق اسم القُوى على العقل وفيما أنشد ثعْلب‏:‏

وصاحِبيْن حازماً قَواهما *** نَبّهْتُ والرقادُ قدْ علاهما

إلى أمونَيْن فعدّياهما ***

وسمى الحكماء الحواس الخمس العقلية بالقوى الباطنية وهي الحافظة، والواهمة، والمفكرة، والمخيّلة، والحسُ المشترك‏.‏

فيقال‏:‏ فرس قوي، وجمل قوي على الحقيقة، ويقال‏:‏ عود قوي، إذا كان عسير الإنكسار، وأسّس قوي، إذا كان لا ينخسف بما يُبنى عليه من جدار ثقيل، إطلاقاً قريباً من الحقيقة، وهاته الحالة مقول عليها بالتشكيك لأنها في بعض موصوفاتها أشّدُ منها في بعض آخر، ويظهر تفاوتها في تفاوت ما يستطيع موصوفها أن يعمله من عمل ممّا هي حالة فيه، ولما كان من لوازم القوة أن قدره صاحبها على عمل ما يريده أشد مما هو المعتاد، والأعمالُ عليه أيسر، شاع إطلاقها على الوسائِل التي يستعين بها المرء على تذليل المصاعب مثل السلاح والعتاد، والمال، والجاه، وهو إطلاق كنائي قال تعالى‏:‏

‏{‏قالوا نحن أولوا قوة‏}‏ في سورة النمل ‏(‏33‏)‏‏.‏

ولكونها يلزمها الاقتدار على الفعل وُصف الله تعالى باسم القوي أي الكامل القدرة قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله قوي شديد العقاب‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏52‏)‏‏.‏

والقوة هنا في قوله‏:‏ فخذها بقوة‏}‏ تمثيل لحالة العزم على العمل بما في الألواح، بمنتهى الجِد والحِرص دون تأخير ولا تساهل ولا انقطاع عند المشقة ولا ملل، بحالة القوي الذي لا يستعصي عليه عمل يريده‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا يحيى خذ الكتاب بقوة‏}‏ في سورة مريم ‏(‏12‏)‏‏.‏

وهذا الأخذ هو حَظ الرسول وأصحابه المبلغين للشريعة والمنفذين لها، فالله المشرّع، والرسولُ المنفذ، وأصحابه ووُلاةَ الأمور هم أعوان على التنفيذ، وإنما اقتصر على أمر الرسول بهذا الأخذ لأنه من خصائصه من يقوم مقامه في حضرته وعند مغيبه، وهُو وُهمْ فيما سوى ذلك كسائر الأمة‏.‏

فقوله‏:‏ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها‏}‏ تعريج على ما هو حظ عموم الأمة من الشريعة وهو التمسك بها، فهذا الأخذ مجاز في التمسك والعمل ولذلك عدي بالباء الدالة على اللصوق، يقال‏:‏ أخذ بكذا إذا تمسك به وقبض عليه، كقوله‏:‏ ‏{‏وأخذ برأس أخيه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 150‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 94‏]‏‏.‏ ولم يُعد فعل الأخذ بالباء في قوله‏:‏ ‏{‏فخذها‏}‏ لأنه مستعمل في معنى التلقي والحفظ لأنه أهم من الأخذ بمعنى التمسك والعمل، فإن الأول حظ ولي الأمر والثاني حظ جميع الأمة‏.‏

وجزم ‏{‏يأخذوا‏}‏ جواباً لقوله‏:‏ ‏{‏وأُمرْ‏}‏ تحقيقاً لحصول امتثالهم عندما يأمرهم‏.‏

و ‏{‏بأحسنها‏}‏ وصف مسلوب المفاضلة مقصود به المبالغة في الحُسن، فإضافتها إلى ضمير الألواح على معنى اللام، أي‏:‏ بالأحسن الذي هو لها وهو جميع ما فيها، لظهور أن ما فيها من الشرائع ليس بينه تفاضل بين أحسن ودون الأحسن، بل كله مرتبة واحدة فيما عين له، ولظهور أنهم لا يؤمنون بالأخذ ببعض الشريعة وترك بعضها، ولأن الشريعة مفصّل فيها مراتب الأعمال، فلو أن بعض الأعمال كان عندها أفضلَ من بعض، كالمندوب بالنسبة إلى المباح، وكالرخصة بالنسبة إلى العزيمة، كان الترغيب في العمل بالأفضل مذكوراً في الشريعة، فكان ذلك من جملة الأخذ بها، فقرائِن سلب صيغة التفضيل عن المفاضلة قائمة واضحة، فلا وجه للتردد في تفسير الأحسن في هذه الآية والتعزب إلى التنظير بتراكيب مصنوعة أو نادرة خارجة عن كلام الفصحاء، وهذه الآية والتعزب إلى التنظير بتراكيب مصنوعة أو نادرة خارجة عن كلام الفصحاء، وهذه الآية نظير قوله تعالى‏:‏

‏{‏واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم‏}‏ في سورة الزمر ‏(‏55‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ واُمر قومَك يأخذوا بما فيها لحسنها‏.‏

كلام موجّه إلى موسى عليه السلام فيجوز أن يكون منفصلاً عن الكلام الذي قبله فيكون استئنافاً ابتدائياً‏:‏ هو وعد له بدخولهم الأرض الموعودة، ويجوز أن تكون الجملة متصلة بما قبلها فتكون من تمام جملة ‏{‏وأُمرْ قومك يأخذوا باحسنها‏}‏ على أنها تحذير من التفريط في شيء مما كُتب له في الألواح‏.‏ والمعنى سأبين لكم عقاب الذين لا يأخذون بها‏.‏

والدار المكان الذي تسكنه العائِلة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخسفنا به وبداره الأرض‏}‏ في سورة القصص ‏(‏81‏)‏ والمكان الذي يحله الجماعة من حي أو قبيلة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأصبحوا في دارهم جاثمين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 91‏]‏ وقد تقدم‏.‏ وتطلق الدار على م ‏{‏فنعم عقبى الدار‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 24‏]‏، وقد يراد بها مآل المرء ومصيره؛ لأنه بمنزلة الدار يأوي إليه في شأنه‏.‏ وقد تقدم قريب من هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏135‏)‏‏.‏

وخوطب بضمير الجمع باعتبار من معه من أصحابه شيوخ بني إسرائيل، أو باعتبار جماعة قومه فالخطاب شامل لموسى ومن معه‏.‏

والإراءة من رأى البصرية؛ لأنها عديت إلى مفعولين فقط‏.‏

وأوثر فعل أريكم‏}‏ دون نحو‏:‏ سأدخلكم، لأن الله منع معظم القوم الذين كانوا مع موسى من دخول الأرض المقدسة لمّا امتنعوا من قتال الكنعانيين كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏26‏)‏‏.‏ وجاء ذلك في التوراة في سفر التثنية الإصحاح الأول‏:‏ أن الله قال لموسى‏:‏ ‏{‏وأنت لا تدخل إلى هناك‏}‏ وفي الإصحاح ‏(‏34‏)‏ وصعد موسى إلى الجبل ‏(‏نبو‏)‏ فأراه الله جميع الأرض وقال له‏:‏ هذه الأرض التي أقسمتُ لإبراهيم قائِلاً لِنسلك أُعطيها قد أريتُك إياها بعينيك ولكنك لا تعبُرُ‏.‏

ويجوز أن يكون سأريكم خطاباً لقوم موسى، فيكون فعل أريكم كناية عن الحلول في دار الفاسقين، والحلول في ديار قوم لا يكون إلاّ الفتح والغلبة، فالإراءة رمز إلى الوعد بفتح بلاد الفاسقين، والمراد بالفاسقين المشركون، فالكلام وعد لموسى وقومه بأن يفتحوا ديار الأمم الحالة بالأرض المقدسة التي وعدهم الله بها، وهم المذكورون في التوراة في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر الخروج خطاباً للشعب إحفظ ما أنا موصيك به ها أنا طارد من قدامك الأموريين، والكنعانيين، والحثيين، والفرزيين، والحويين، واليبوسيين، احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فَخّا في وسطك بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم فإنك لا تسْجد لإله آخر‏.‏

ويؤيده مَا روي عن قتادة أن دار الفاسقين هي دار العمالقة والجبابرة، وهي الشام، فمن الخطأ تفسير من فسروا دار الفاسقين بأنها أرض مصر فإنهم قد كانوا بها وخرجوا منها ولم يرجعوا إليها، ومن البعيد تفسير دار الفاسقين بجهتهم، وفي الإصحاح 34 من سفر الخروج احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض التي أنت آت إليها فيزنون وراء آلهتهم ويذبحون لآلهتهم فتُدعى وتأكل من ذبيحتهم وتأخذ من بناتهم لبنيك فتزني بناتهم وراء آلهتهن ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن، ولا يخفى حسن مناسبة التعبير عن أولئك الأقوام بالفاسقين على هذا الوجه‏.‏

وقيل المراد بدار الفاسقين ديار الأمم الخالية مثل ديار ثمود وقوم لوط الذين أهلكهم الله لكفرهم، أي ستمرون عليهم فترون ديارهم فتتعظون بسوء عاقبتهم لفسقهم، وفيه بعد لأن بني إسرائيل لم يمروا مع موسى على هذه البلاد‏.‏

والعدول عن تسمية الأمم بأسمائهم إلى التعبير عنهم بوصف الفاسقين؛ لأنه أدل على تسبب الوصف في المصير الذي صاروا إليه، ولأنه أجمع وأوجز، واختيار وصف الفاسقين دون المشركين والظالمين الشائِع في التعبير عن الشرك في القرآن؛ للتنبيه على أن عاقبتهم السوأى تسببت على الشرك وفاسد الأفعال معاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

‏{‏سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏146‏)‏‏}‏

يجوز أن تكون هذه الآية تكملة لما خاطب الله به موسى وقومه، فتكون جملة ‏{‏سأصرف‏}‏ الخ بأسهم، استئنافاً بيانياً، لأن بني إسرائيل كانوا يهابون أولئك الأقوام ويخْشوْن، فكأنهم تساءلوا كيف تُرينا دارهم وَتعدُنا بها، وهلْ لا نهلك قبل الحلول بها، كما حكى الله عنهم ‏{‏قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبّارين‏}‏ الآية في سورة العقود ‏(‏22‏)‏ وقد حكى ذلك في الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد، فاجيبوا بأن الله سيصرف أولئك عن آياتِه‏.‏

والصرف الدفع أي سَأَصُدُّ عن آياتي، أي عن تعطيلها وإبطالها‏.‏

والآيات الشريعة، ووعد الله أهلها بأن يورثهم أرض الشام، فيكون المعنى سأتَوَلّى دفعهم عنكم، ويكون هذا مثل ما ورد في التوراة في الإصحاح الرابع والثلاثين «ها أنا طاردٌ من قُدَّامِك الأُموريين الخ»، فالصرف على هذا الوجه عناية من الله بموسى وقومِه بما يُهيء لهم من أسباب النصر على أولئك الأقوام الأقوياء، كإلقاء الرعببِ في قلوبهم، وتشتيت كلمتهم، وإيجاد الحوادث التي تفت في ساعد عُدتهم أو تكونُ الجملة جواباً لسؤال من يقول‏:‏ إذا دخلنا أرض العدو فلعلهم يؤمنون بهدينا، ويتبعون ديننا، فلا نحتاج إلى قتالهم، فأجيبوا بأن الله يَصرفهم عن إتباع آياته؛ لأنهم جُبلوا على التكبر في الأرض، والإعراضضِ عن الآيات، فالصرف هنا صرف تكويني في نفوس الأقوام، وعن الحسن‏:‏ أن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى حد إذا وصل إليه مَات قلبه‏.‏

وفي قَصِّ الله تعالى هذا الكلامَ على محمد صلى الله عليه وسلم تعريض بكفار العرب بأن الله دافِعُهم عن تعطيل آياته، وبأنه مانع كثيراً منهم عن الإيمان بها لما ذكرناه آنفاً‏.‏

ويجوز أن تكون جملة ‏{‏سأصرف عن آياتي‏}‏ من خطاب الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم رَوى الطبري ذلك عن سفيان بن عيينة، فتكون الجملة معترضة في أثناء قصة بني إسرائيل بمناسبة قوله‏:‏ ‏{‏سأُريكم دار الفاسقين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏ تعريضاً بأن حال مشركي العرب كحال أولئك الفاسقين، وتصريحاً بسبب إدامتهم العناد والإعراض عن الإيمان، فتكون الجملة مستأنفة استينافاً ابتدائياً، وتأتي في معنى الصرف عن الآيات الوجوه السابقة واقتران فعل ‏{‏سأصرف‏}‏ بسين الاستقبال القريب تنبهه على أن الله يُعجل ذلك الصرف‏.‏

وتقديم المجرور على مفعول ‏{‏أصرف‏}‏ للاهتمام بالآيات، ولأن ذكره عقب الفعل المتعلق هو به أحسنُ‏.‏

وتعريف المصروفين عن الآيات بطريق الموصولية للإيماء بالصلة إلى علة الصرف‏.‏ وهي ما تضمنته الصلات المذكورة، لأن من صارت تلك الصفات حالات له يَنصره الله، أو لأنه إذا صار ذلك حاله رين على قلبه، فصرف قلبه عن إدراك دلالة الآيات وزالت منه الأهلية لذلك الفهم الشريف‏.‏

والأوصاف التي تضمنتها الصلات في الآية تنطبق على مشركي أهل مكة أتَمّ الانطباق‏.‏

والتكبر الاتصاف بالكبر‏.‏ وقد صيغ له الصيغة الدالة على التكلف، وقد بينا ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أبَى واستكبر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 34‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏استكْبرتم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏87‏)‏، والمعنى‏:‏ أنهم يُعْجبَون بأنفسهم، ويعُدون أنفسهم عظماءَ فلا يأتمرون لآمر، ولا ينتصحون لناصح‏.‏

وزيادة قوله‏:‏ في الأرض‏}‏ لتفضيح تكبرهم، والتشهير بهم بأن كبرهم مظروف في الأرض، أي ليس هو خفياً مقتصراً على أنفسهم، بل هو مبثوث في الأرض، أي مبثوث أثره، فهو تكبر شائع في بقاع الأرض كقوله‏:‏ ‏{‏يبغون في الأرض بغير الحق‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 23‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 27‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تمش في الأرض مَرحاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 37‏]‏ وقولُ مرة بن عَدّاءَ الفقعسي‏:‏

فهلاّ أعدوني لِمثلي تفاقَدوا *** وفي الأرْض مبثوثٌ شجاعٌ وعقرب

وقوله‏:‏ ‏{‏بغير الحق‏}‏ زيادة لتشنيع التكبر بذكر ما هو صفة لازمة له، وهو مغايرة الحق، أي‏:‏ باطل وهي حال لازمة للتكبر، كاشفة لوصفه، إذ التكبر لا يكون بحق في جانب الخلق، وإنما هو وصف لله بحق؛ لأنه العظيم على كل موجود، وليس تكبر الله بمقصود أن يحترز عنه هنا حتى يجعل القيد ‏{‏بغير الحق‏}‏ للاحتراز عنه، كما في «الكشاف»‏.‏

ومن المفسرين من حاول جعل قوله‏:‏ ‏{‏بغير الحق‏}‏ قيداً للتكبر، وجعل من التكبر ما هو حق، لأن للمحق أن يتكبر على المبطل، ومنه المقالة الشمهورة «الكِبْر على المتكبر صدقة» وهذه المقالة المستشهد بها جرت على المجاز أو الغلط‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإن يَروا كل آية لا يؤمنوا بها‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏يتكبرون‏}‏ فهو في حكم الصلة، والقول فيه كالقول في قوله‏:‏ ‏{‏لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية‏}‏ في سورة يونس ‏(‏96، 97‏)‏ وكل مستعملة في معنى الكثرة، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن أتيتَ الذين أوتوا الكتاب بكل آية‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏145‏)‏‏.‏

والسبيل مستعار لوسيلة الشيء بقرينة إضافته إلى الرشد وإلى الغي‏.‏ والرؤية مستعارة للإدراك‏.‏

والاتخاذ حقيقته مطاوع أخّذه بالتشديد، إذا جعله آخذاً، ثم أطلق على أخذ الشيء ولو لم يعطه إياه غيرُه، وهوَ هنا مستعار للملازمة، أي لا يلازمون طريق الرشد، ويلازمون طريق الغي‏.‏

والرشد الصلاح وفعل النافع، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن آنستم منهم رشداً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏6‏)‏ والمراد به هنا‏:‏ الشيء الصالح كله من الإيمان والأعمال الصالحة‏.‏

والغي الفساد والضلال، وهو ضد الرشد بهذا المعنى، كما أن السفه ضد الرشد بمعنى حسن النظر في المال، فالمعنى‏:‏ أن يدركوا الشيءَ الصالح لم يعملوا به‏.‏ لغلبة الهوى على قلوبهم، وإن يدركوا الفساد عملوا به لغلبة الهوى، فالعمل به حمل للنفس على كلفة، وذلك تأباه الأنفس التي نشأت على متابعة مَرغوبها، وذلك شأن الناس الذين لم يروّضوا أنفسهم بالهدى الإلهي، ولا بالحكمة ونصائح الحكماء والعقلاء، بخلاف الغي، فإنه ما ظهر في العالم إلاّ من آثار شهوات النفوس ودعواتها التي يزيَن لها الظاهر العاجل، وتجهل عواقب السوء الآجلة، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏{‏حفّت الجنة بالمكاره وُحفّت النار بالشهوات‏}‏‏.‏

والتعبير في الصلات الأربع بالأفعال المضارعة‏:‏ لإفادة تجدد تلك الأفعال منهم واستمرارهم عليها‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏الرُشد‏}‏ بضم فسكون وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف‏:‏ بفتحتين، وهما لغتان فيه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأن توسيمهم بتلك الصلات يثير سؤالاً‏.‏

والمشار إليه بذلك ما تضمنه الكلام السابق، نُزّل منزلة الموجود في الخارج وهو ما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏سأصرف عن آياتي‏}‏ إلى آخر الآية، واستعمل له اسم إشارة المفرد؛ لتأويل المشار إليه بالمذكور كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلاّ بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏ أي من يفعل المذكور، وهذا الاستعمال كثير في اسم الإشارة، وألحق به الضمير كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏61‏)‏‏.‏

والباء السببية أي‏:‏ كِبْرُهم‏.‏ وعدمُ إيمانهم، واتباعُهم سبيل الغي، وإعراضُهم عن سبيل الرشد سببه تَكذيبهم بالآيات، فأفادت الجملة بيان سبب الكبر، وما عطف عليه من الأوصاف التي هي سبب صرفهم عن الآيات، فكان ذلك سبب السبب، وهذا أحسن من إرجاع الإشارة إلى الصرف المأخوذة من ‏{‏سأصرف‏}‏ لأن هذا المحمل يجعل التكذيب سبباً ثانياً للصرف، وجعله سبباً للسبب أرشق‏.‏

واجتلبت ‏(‏أن‏)‏ الدالة على المصدرية والتوكيد؛ لتحقيق هذا التسبب وتأكيده، لأنه محل عرابة‏.‏

وجعل المسند فعلاً ماضياً، لإفادة أن وصف التكذيب قديم راسخ فيهم، فكان رسوخ ذلك فيهم سبباً في أن خُلق الطبعُ والختمُ على قلوبهم فلا يشعرون بنقائصهم، ولا يصلحون أنفسهم، فلا يزالون متكبرين معرضين غاوين‏.‏

ومعنى ‏{‏كذبوا بآياتنا‏}‏ إنهم ابتدأوا بالتكذيب، ولم ينظروا، ولم يهتموا بالتأمل في الآيات فداموا على الكبر وما معه، فصرف الله قلوبهم عن الانتفاع بالآيات، وليس المراد الإخبار بأنهم حصل منهم التكذيب، لأن ذلك قد علم من قوله‏:‏ ‏{‏وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها‏}‏‏.‏

والغفلة انصراف العقل والذهن عن تذكر شيء بقصدٍ أو بغير قصد، وأكثر استعماله في القرآن فيما كان عن قصد بإعراض وتشاغل، والمذموم منها ما كان عن قصد، وهو مناط التكليف والمؤاخذة، فأما الغفلة عن غير قصد فلا مؤاخذة عليها، وهي المقصود من قول علماء أصول الفقه‏:‏ يمتنع تكليف الغافل‏.‏

وللتنبيه على أن غفلتهم عن قصد صيغ الإخبار عنهم بصيغة ‏{‏كانوا عنها غافلين‏}‏ للدلالة على استمرار غفلتهم‏.‏ وكونها دأباً لهم، وإنما تكون كذلك إذا كانوا قد التزموها، فأما لو كانت عن غير قصد‏.‏ فإنها قد تعتريهم وقد تفارقهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏147‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

يجوز أن تكون هذه الجملة معطوفة على جملة ‏{‏سأصرف عن آياتي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 146‏]‏ إلى آخر الآيات على الوجهين السابقين ويجوز أن يكون معطوفة على جملة ‏{‏ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 146‏]‏، ويجوز أن تكون تذييلاً معترضاً بين القصتين وتكون الواو اعتراضية، وأيّاً ما كان فهي آثارها الإخبار عنهم بأنهم إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً، فإن ذلك لما كان هو الغالب على المتكبرين الجاحدين للآيات، وكأن لا تخلو جماعة المتكبرين من فريق قليل يتخذ سبيل الرشد عن حلم وحب للمحمدة، وهم بعض سادة المشركين وعظماؤهم في كل عصر، كانوا قد يحسب السامع أنْ ستنفعهم أعمالهم، أزيل هذا التوهم بأن أعمالهم لا تنفعهم مع التكذيب بآيات الله ولقاء الآخرة، وأشير إلى أن التكذيب هو سبب حبط أعمالهم بتعريفهم بطريق الموصولية، دون الإضمار، مع تقدم ذكرهم المقتضي بحسب الظاهر الإضمار فخولف مقتضى الظاهر لذلك‏.‏

وإضافة ‏{‏ولقاء‏}‏ إلى ‏{‏الآخرة‏}‏ على معنى ‏(‏في‏)‏ لأنها إضافة إلى ظرف المكان، مثلُ ‏{‏عقْبى الدار‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 24‏]‏ أي لقاء الله في الآخرة، أي لقاء وعده ووعيده‏.‏

والحبط فساد الشيء الذي كان صالحاً، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏5‏)‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏هل يُجْزَون إلاّ ما كانوا يعملون‏}‏ مستأنفة استينافاً بيانياً، جواباً عن سؤال ينشأ عن قوله‏:‏ ‏{‏حبطت أعمالهم‏}‏ إذ قد يقول سائل‏:‏ كيف تحبط أعمالهم الصالحة، فأجيب بأنهم جُوزُوا كما كانوا يعملون، فإنهم لما كذبوا بآيات الله كانوا قد أحالوا الرسالة والتبليغ عن الله، فمن أين جاءهم العلم بأن لهم على أعمالهم الصالحة جزاءً حسناً، لأن ذلك لا يعرف إلاّ بإخبار من الله تعالى، وهم قد عطلوا طريق الإخبار وهو الرسالة، ولأن الجزاء إنما يظهر في الآخرة، وهم قد كذبوا بلقاء الآخرة، فقد قطعوا الصلة بينهم وبين الجزاء، فكان حبط أعمالهم الصالحة وفاقاً لاعتقادهم‏.‏

والمراد ب ‏{‏ما كانوا يعملون‏}‏ ما كانوا يعتقدون، فأطلق على التكذيب بالآيات وبلقاء الآخرة فعلُ ‏{‏يَعملون‏}‏ لأن آثار الاعتقاد تظهر في أقوال المعتقد وأفعاله، وهي من أعماله‏.‏

والاستفهام ب ‏{‏هل‏}‏ مُشْرب معنى النفي، وقد جعل من معاني ‏(‏هل‏)‏ النفيُ، وقد بيناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل تجزون إلاّ ما كنتم تعملون‏}‏ في سورة النمل ‏(‏90‏)‏، فانظره هناك‏.‏

‏{‏وما كانوا يعملون‏}‏ مقدر فيه مضاف، والتقدير مكافئ ما كانوا يعملون بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏يُجزون‏}‏ لأن الجزاء لا يكون نفس المجزي عليه، فإن فعل جَزى يتعدى إلى العوض المجعول جزاء بنفسه، ويتعدى إلى العمل المجزي عليه بالباء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 12‏]‏ ونظير هذه الآية قوله في سورة الأنعام ‏(‏139‏)‏ ‏{‏سيجزيهم وصفهم‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏148‏]‏

‏{‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏148‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وواعدنا موسى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏ عطَف قصة على قصة، فذكر فيما تقدم قصة المناجاة، وما حصل فيها من الآيات والعبر، وذكر في هذه الآية ما كان من قوم موسى، في مدة مغيبه في المناجاة، من الإشراك‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏من بعده‏}‏ أي من بعد مغيبه، كما هو معلوم من قوله‏:‏ ‏{‏ولما جاء موسى لميقاتنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏ ومن قوله‏:‏ ‏{‏وقال موسى لأخيه هارون اخلفْني في قومي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏‏.‏

وحَذْفُ المضاف مع «بَعْد» المضافةِ إلى اسم المتحّدث عنه شائع في كلام العرب، كما تقدم في نظيرها من سورة البقرة‏.‏

و ‏(‏مِن‏)‏ في مثله للابتداء، وهو أصل معاني ‏(‏مِن‏)‏ وأما ‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من حليَّهم‏}‏ فهي للتبعيض‏.‏

والحُلّي بضم الحاء وكسر اللام وتشديد المثناة التحتية، جمع حَلْي، بفتح الحاء وسكون اللام وتخفيف التحتية، ووزن هذا الجمع فُعول كما جمع ثدْي، ويجمع أيضاً على حِلي، بكسر الحاء مع اللام، مثل عِصي وقِسي اتباعاً لحركة العين، وبالأول قرأ جمهور العشرة، وبالثاني حمزة، والكسائي، وقرأ يعقوب حَلْيهم بفتح الحاء وسكون اللام على صيغة الإفراد، أي اتخذوا من مصوغهم وفي التوراة أنهم اتخذوه من ذهب، نزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائِهم وبناتهم وبنيهم‏.‏

والعجل ولد البقرة قبل أن يصير ثَوْراً، وذكر في سورة طه أن صانع العجل رجل يقال له السامري، وفي التوراة أن صانعه هو هارون، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه الواقع في التوراة بعد موسى، ولم يكن هارون صائِغاً، ونسب الاتخاذ إلى قوم موسى كلهم على طريقة المجاز العقلي، لأنهم الآمرون باتخاذه والحريصون عليه، وهذا مجاز شائِع في كلام العرب‏.‏

ومعنى اتخذوا عِجلاً صورة عِجْل، وهذا من مجاز الصورة، وهو شائِع في الكلام‏.‏

والجسد الجسم الذي لا روح فيه، فهو خاص بجسم الحيوان إذا كان بلا روح، والمراد أنه كجسم العجل في الصورة والمقدار إلاّ أنه ليس بحي وما وَقع في القصص‏:‏ إنه كان لحماً ودماً ويأكل ويشرب، فهو من وضع القصاصين، وكيف والقرآننِ يقول‏:‏ ‏{‏من حُليهم‏}‏، ويقول‏:‏ ‏{‏له خوار‏}‏، فلو كان لحماً ودماً لكان ذكره أدخل في التعجيب منه‏.‏

والخُوار بالخاء المعجمة صوت البقر، وقد جعل صانع العجل في باطنه تجْويفاً على تقدير من الضيق مخصوص، واتخذ له آلة نافخة خفية، فإذا حركت آلة النفخ انضغط الهواء في باطنه، وخرج من المضيق، فكان له صوت كالخوار، وهذه صنعة كصنعة الصفارة والمزمار، وكان الكنعانيون يجعلون مثل ذلك لصنعهما المسمى بعْلاً‏.‏

و ‏{‏جسداً‏}‏ نعت ل ‏{‏عجلاً‏}‏ وكذلك ‏{‏له خوار‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ألم يروا أنه لا يكلمهم‏}‏ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً؛ لبيان فساد نظرهم في اعتقادهم‏.‏

والاستفهام للتقرير وللتعجيب من حالهم، ولذلك جعل الاستفهام عن نفي الرؤية، لأن نفي الرؤية هو غير الواقع من حالهم في نفس الأمر، ولكن حالهم يشبه حال من لا يرون عدم تكليمه، فوقع الاستفهام عنه لعلهم لم يروا ذلك، مبالغة، وهو للتعجيب وليس للإنكار، إذ لا ينكر ما ليس بموجود، وبهذا يعلم أن معنى كونه في هذا المقام بمنزلة النفي للنفي إنما نشأ من تنزيل المسؤول عنهم منزلة من لا يرى، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى‏:‏

‏{‏ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏243‏)‏‏.‏

والرؤية بصرية، لأن عدم تكليم العجل إياهم مشاهد لهم، لأن عدم الكلام يرى من حال الشيء الذي لا يتكلم، بانعدام آلة التكلم وهو الفم الصالح للكلام، وبتكرر دعائهم إياه وهو لا يجيب‏.‏

وقد سفه رأي الذين اتخذوا العجل إلاهاً، بأنهم يشاهدون أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً، ووجه الاستدلال بذلك على سفه رأيهم هو أنهم لا شبهة لهم في اتخاذه إلاهاً بأن خصائصه خصائص العجماوات، فجسمه جسم عجل، وهو من نوع ليس أرقى أنواع الموجودات المعروفة، وصوته صوت البقر، وهو صوت لا يفيد سامعه، ولا يبين خطاباً، وليس هو بالذي يهديهم إلى أمر يتبعونه حتى تغني هدايتهم عن كلامه، فهو من الموجودات المنحطة عنهم، وهذا كقول إبراهيم ‏{‏فاسْالوهم إن كانوا ينطقون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 63‏]‏ فماذا رأوا منه مما يستأهل الإلهية، فضلاً على أن ترتقي بهم إلى الصفات التي يستحقها الإله الحق، والذين عبدوه أشرف منه حالاً وأهدى، وليس المقصود من هذا الاستدلال على الألوهية بالتكليم والهداية، وإلا للزم إثبات الإلهية لحكماء البشر‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏اتخذوه‏}‏ مؤكدة لجملة ‏{‏واتخذ قوم موسى‏}‏ فلذلك فصلت، والغرض من التوكيد في مثل هذا المقام هو التكرير لأجل التعجيب، كما يقال‏:‏ نَعمْ اتخذوه، ولتبنى عليه جملة ‏{‏وكانوا ظالمين‏}‏ فيظهرَ أنها متعلقة باتخاذ العجل، وذلك لبعد جملة‏:‏ ‏{‏واتخذ قوم موسى‏}‏ بما وليها من الجملة وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وليكتب بينكم كاتب بالعدل‏}‏ إلى قوله ‏{‏فليكتب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ أعيد فليكتب لتُبنى عليه جملة‏:‏ ‏{‏وليُملل الذي عليه الحق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏، وهذا التكرير يفيد معَ ذلك التوكيدَ وما يترتب على التوكيد‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وكانوا ظالمين‏}‏ في موضع الحال من الضمير المرفوع في قوله‏:‏ ‏{‏اتخذوه‏}‏ وهذا كقوله في سورة البقرة ‏(‏51‏)‏ ‏{‏ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏149‏]‏

‏{‏وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏‏}‏

كان مقتضى الظاهر في ترتيب حكاية الحوادث أن يتأخر قوله‏:‏ ‏{‏ولما سُقط في أيديهم‏}‏ الآية، عن قوله‏:‏ ‏{‏ولما رَجع موسى إلى قومه غضبانَ أسِفاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 150‏]‏ لأنهم ما سُقط في أيديهم إلاّ بعد أن رجع موسى ورأوا فَرْط غضبه وسمعوا توبيخه أخاه وإيّاهم، وإنما خولف مقتضى الترتيب تعجيلاً بذكر ما كان لاتخاذهم العجل من عاقبة الندامة وتبين الضلالة، موعظة للسامعين لكيلا يعجلوا في التحول عن سنتهم، حتى يتبينوا عواقب ما هم متحولون إليه‏.‏

و ‏{‏سُقط في أيديهم‏}‏ مبني للمجهول، كلمة أجراها القرآن مجرى المثل إذا أُنظمت على إيجاز بديع وكناية واستعارة، فإن اليد تستعار للقوة والنصرة إذ بها يُضرب بالسيففِ والرمح، ولذلك حين يَدْعون على أنفسهم بالسوء يقولون‏:‏ «شَلّتْ من يديّ الأنامل»، وهي آلةُ القدرة قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَا الأيد‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 17‏]‏، ويقال‏:‏ ما لي بذلك يدٌ، أوْ ما لي بذلك يَداننِ أي لا أستطيعه، والمرء إذا حصل له شلل في عضد ولم يستطع تحريكه يحسن أن يقال‏:‏ سَقط في يده ساقط، أي نزل به نازل‏.‏

ولما كان ذكر فاعل السقوط المجهول لا يزيد على كونه مشتقاً من فعله، ساغ أن يُبنى فعله للمجهول فمعنى «سُقط في يده» سَقط في يده ساقِط فأبطل حركة يده، إذ المقصود أن حركة يده تعطلت بسبب غير معلوم، إلاّ بأنه شيء دخل في يده فصيّرها عاجزة عن العمل وذلك كناية عن كونه قد فجأه ما أوجب حيرته في أمره، كما يقال‏:‏ فُتَ في ساعده‏.‏

وقد استعمل في الآية في معنى الندم وتبيُّن الخطأ لهم، فهو تمثيل لحالهم بحال من سُقط في يده حين العمل‏.‏ فالمعنى أنهم تبين لهم خطأهم وسوء معاملتهم ربهم ونبيهم، فالندامة هي معنى التركيب كله، وأما الكناية فهي في بعض أجزاء المركب وهو سقط في اليد، قال ابن عطية «وحُدثت عن أبي مروان بن سراج» أنه كان يقول قول العرب‏:‏ سقط في يده مما أعياني معناه، وقال الزجاح هو نظم لم يُسمع قبل القرآن، ولم تعرفه العرب‏.‏

قلت وهو القول الفصل، فإني لم أره في شيء من كلامهم قبل القرآن، فقول ابن سراج‏:‏ قول العرب سقط في يده، لعله يريد العرب الذين بعدَ القرآن‏.‏

والمعنى لما رجع موسى إليهم وهددهم وأحرق العجل كما ذكر في سورة طه، وأوجز هنا إذ من المعلوم أنهم ما سقط في أيديهم ورأوا أنهم ضلوا بعد تصميمهم وتصلبهم في عبادة العجل وقولهم‏:‏ ‏{‏لن نبرح عليه عاكفين‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 91‏]‏، إلاّ بسبب حادث حدث ينكشف لهم بسببه ضلالهم، فطيّ ذلك من قبيل الإيجاز ليبنى عليه أن ضلالهم لم يلبث أن انكشف لهم، ولذلك قرن بهذا حكاية اتخاذهم العجل للمبادرة ببيان انكشاف ضلالهم تنهية لقصة ضلالهم، وكأنه قيل‏:‏ فسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا ثم قيل ولما سقط أيديهم قالوا‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏لئن لم يرْحمنْا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين‏}‏ توبة وإنابة، وقد علموا أنهم أخطأوا خطيئة عظيمة، ولذلك أكدوا التعليق الشرطي بالقسم الذي وطَأتْه اللامُ‏.‏ وقدموا الرحمة على المغفرة؛ لأنها سببها‏.‏

ومجيء خبر كان مقترناً بحرف ‏(‏مِن‏)‏ التبعيضية؛ لأن ذلك أقوى في إثبات الخسارة من لنكونن خاسرين كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد ضللتُ إذاً وما أنا من المهتدين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 55‏]‏ وقرأه الجمهور ‏{‏يرحمنا ربنا ويغفر‏}‏ بياء الغيبة في أول الفعلين وبرفع ربُّنا، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بتاء الخطاب في أول الفعلين ونصب ربّنا على النداء، أي قالوا ذلك كله لأنهم دعوا ربهم وتداولوا ذلك بينهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏150- 151‏]‏

‏{‏وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏150‏)‏ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

جُعل رجوع موسى إلى قومه غضبان كالأمر الذي وقع الإخبار عنه من قبلُ على الأسلوب المبين في قوله‏:‏ ‏{‏ولما جاء موسى لميقاتنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولما سُقط في أيديهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 149‏]‏‏.‏ فرجوع موسى معلوم من تَحقق انقضاء المدة الموعود بها، وكونُه رجع في حالة غضب مشعر بأن الله أوحى إليه فأعلمه بما صنع قومُه في مغيبه، وقد صرح بذلك في سورة طه ‏(‏85‏)‏ ‏{‏قال فإنّا قد فتنّا قومك من بَعدِك وأضلهم السامري‏}‏ ف ‏{‏غضبان أسِفاً حَالان من موسى، فهما قيداننِ لرجع‏}‏ فعلم أن الغضب والأسف مقارنان للرجوع‏.‏

والغْضب تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب‏}‏ في هذه السورة ‏(‏71‏)‏‏.‏

والأَسِف بدون مد، صيغة مبالغة للآسف بالمد الذي هو اسم فاعل للذي حل به الأسف وهو الحزن الشديد، أي رجع غضْبان من عصْيان قومه حزيناً على فساد أحوالهم، وبئسما ضد نِعمّا، وقد مضى القول عليه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل بئسما يأمركم به إيمانكم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏93‏)‏، والمعنى بئست خلافة خلفتمونيها خِلاَفتُكم‏.‏

وتقدم الكلام على فعل خَلف في قوله‏:‏ ‏{‏اخلُفْني في قومي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏ قريباً‏.‏

وهذا خطاب لهارون ووجوه القوم، لأنهم خلفاء موسى في قومهم فيكون ‏{‏خلفتموني‏}‏ مستعملاً في حقيقته، ويجوز أن يكون الخطاب لجميع القوم، فأما هارون فلأنه لم يُحسن الخلافة بسياسة الأمة كما كان يسوسها موسى، وأما القوم فلأنهم عبدوا العجل بعد غيبة موسى، ومن لوازم الخلافة فعل ما كان يفعله المخلُوف عنه، فهم لما تركوا ما كان يفعله موسى من عبادة الله وصاروا إلى عبادة العجل فقد انحرفوا عن سيرته فلم يخلفوه في سيرته، وإطلاق الخلافة على هذا المعنى مجاز فيكون فعل ‏{‏خلفتموني‏}‏ مستعملاً في حقيقته ومجازه‏.‏

وزيادة ‏{‏مِن بعدي‏}‏ عقب ‏{‏خلفتموني‏}‏ للتذكير بالبَون الشاسع بين حال الخلف وحال المخلوفَ عنه تصوير لفظاعة ما خلفوه به أي بعدما سمعتم مني التحذير من الإشراك وزجركم عن تقليد المشركين حين قلتم‏:‏ اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، فيكون قيد ‏{‏من بعدي‏}‏ للكشف وتصوير الحالة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخَر عليهم السقُف من فوقِهم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 26‏]‏، ومعلوم أن السقف لا يكون إلاّ من فوق، ولكنه ذكر لتصوير حالة الخرور وتهويلها، ونظيره قوله تعالى، بعد ذكر نفر من الأنبياء وصفاتهم، ‏{‏فخلف من بعدهم خَلْف‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 169‏]‏ أي من بعد أولئك الموصوفين بتلك الصفات‏.‏

و«عَجلَ» أكثرَ ما يستعمل قاصراً، بمعنى فعل العجلة أي السرعة، وقد يتعدى إلى المعمول «بعن» فيقال‏:‏ عجلَ عن كذا بمعنى لم يتمّه بعد أن شَرع فيه، وضده تَم على الأمر إذا شرع فيه فأتمّه، ويستعمل عَجِل مضمناً معنى سَبَق فعّدَيَ بنفسه على اعتبار هذا المعنى، وهو استعمال كثير‏.‏

ومعنى «عَجِل» هنا يَجوز أن يكون بمعنى لم يُتّمَ، وتكون تعديته إلى المفعول على نزع الخافض‏.‏

والأمرُ يكون بمعنى التكليف وهو ما أمرهم الله به‏:‏ من المحافظة على الشريعة، وانتظار رجوعه، فلم يتموا ذلك واستعجلوا فبدلوا وغيروا، ويجوز أن يكون بمعنى سَبق أي بادرتم فيكون الأمر بمعنى الشأن أي الغضب والسخط كقوله‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله فلا تستعجلوه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 40‏]‏ فالأمر هو الوعيد، فإن الله حذرهم من عبادة الأصنام وتوعدهم، فكان الظن بهم إن وقع منهم ذلك إن يقع بعد طول المدة، فلما فعلوا ما نُهوا عنه بحدثان عهد النهي، جُعلوا سابقين له على طريقة الاستعارة‏:‏ شبهوا في مبادرتهم إلى أسباب الغضب والسخط بسبق السابق المسبوقَ، وهذا هو المعنى الأوضح، ويوضحه قوله، في نظير هذه القصة في سورة طه ‏(‏86‏)‏، حكاية عن موسى‏:‏ ‏{‏قال يا قوم ألم يَعدْكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي‏}‏ وقد تعرضت التوراة إلى شيء من هذا المعنى في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج «وقال الله لموسى رأيتُ هذا الشّعْب فإذا هو شعب صلْب الرقبة فالآن اتركني ليحميَ غَضبي عليهم فأفنيهم»‏.‏

وإلقاء الألواح رَميُها من يده إلى الأرض، وقد تقدم بيان الإلقاء آنفاً‏.‏ وذلك يؤذن بأنه لما نزل من المناجاة كانت الألواح في يده كما صرح به في التوراة‏.‏

ثم إن إلقاءه إياها إنما كان إظهاراً للغضب، أو أثراً من آثار فوران الغضب لما شاهدهم على تلك الحالة، وما ذكر القرآن ذلك الإلقاءَ إلاّ للدلالة على هذا المعنى إذ ليس فيه من فوائد العبرة في القصة إلاّ ذلك، فلا يستقيم قول من فسرها بأن الإلقاء لأجل إشغال يده بجرّ رأس أخيه، لأن ذكر ذلك لا جرور فيه، ولأنه لو كان كذلك لعطف، وأخذ برأس أخيه بالفاء‏.‏

وروي أن موسى عليه السلام كان في خلقه ضيق، وكان شديداً عند الغضب، ولذلك وكزَ القبطي فقضى عليه، ولذلك أخذ برأس أخيه يجره إليه، فهو دليل على فظاعة الفعل الذي شاهده من قومه، وذلك علامة على الفظاعة، وتشنيع عليهم، وليس تأديباً لهم، لأنه لا يكون تأديبهم بإلقاء ألواح كُتب فيها ما يصلحهم، لأن ذلك لا يناسب تصرف النبوءة ‏(‏ولذلك جزمنا بأن إعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابة الكتاب الذي هَمَّ بكتابته قبيل وفاته لم يكن تأديباً للقوم على اختلافهم عنده، كما هو ظاهر قول ابن عباس، بل إنما كان ذلك لِما رأى من اختلافهم في ذلك، فرأى أن الأوْلى ترك كتابته، إذ لم يكن الدين محتاجاً إليه‏)‏ ووقع في التوراة أن الألواح تكسرت حين ألقاها، وليس في القرآن ما يدل على ذلك سوى أن التعبير بالإلقاء الذي هو الرمي، ومَا روي من أن الألواح كانت من حجر، يقتضي أنها اعتراها انكسار، ولكن ذلك الانكسار لا يُذهب ما احتوت عليه من الكتابة، وأما ما روي أنها لما تكسرت ذهب ستة أسباعها، أو ذهب تفصيلها وبقيت موعظتها، فهو من وضع القصّاصين والله تعالى يقول‏:‏

‏{‏ولما سكت عن موسى الغضبْ أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 154‏]‏‏.‏

وأما أخذه برأس أخيه هارون يجره إليه، أي إمساكه بشعر رأسه، وذلك يولمه، فذلك تأنيب لهارون على عدم أخذه بالشدة على عَبدَة العجل، واقتصاره على تغيير ذلك عليهم بالقول، وذلك دليل على أنه غير معذور في اجتهاده الذي أفصح عنه بقوله‏:‏ ‏{‏إني خشيت أن تقول فرقْت بين بني إسرائيل ولم تَرْقُب قولي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 94‏]‏ لأن ضعف مستنده جعله بحيث يستحق التأديب، ولم يكن له عذراً، وكان موسى هو الرسول لبني إسرائيل، وما هارون إلاّ من جملة قومه بهذا الاعتبار، وإنما كان هارون رسولاً مع موسى لفرعون خاصة، ولذلك لم يسَعْ هارونَ إلاّ الاعتذارُ والاستصفاح منه‏.‏

وفي هذا دليل على أن الخطأ في الاجتهاد مع وضوح الأدلة غير معذور فيه صاحبه في إجراء الأحكام عليه، وهو ما يسميه الفقهاء بالتأويل البَعيد ولا يظن بأن موسى عاقب هارون قبل تحقق التقصير‏.‏

وفصلت جملةٌ‏:‏ ‏{‏قال ابن أم‏}‏ لوقوعها جوابها لحوار مقدر دل عليه قوله ‏{‏وأخذ برأس أخيه يجره إليه‏}‏ لأن الشأن أن ذلك لا يقع إلاّ مع كلام توبيخ، وهو ما حكي في سورة طه ‏(‏92، 93‏)‏ بقوله‏:‏ ‏{‏قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضَلوا ألاَّ تتبعننِ أفعصيت أمري‏}‏ على عادة القرآن في توزيع القصة، واقتصاراً على موقع العبرة؛ ليخالف أسلوبُ قصَصه الذي قصد منه الموعظة أساليبَ القصّاصين الذين يقصدون الخبر بكل ما حدث‏.‏

و ‏{‏ابنَ أم‏}‏ منادى بحذف حرف النداء، والنداء بهذا الوصف للترقيق والاستشفاع، وحذف حرف النداء لإظهار ما صاحب هارون من الرعب والاضطراب، أو لأن كلامه هذا وقع بعد كلام سبقه فيه حرف النداء وهو المحكي في سورة طه ‏(‏94‏)‏ ‏{‏قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي‏}‏ ثم قال، بعد ذلك ‏{‏ابنَ أم إن القوم استضعفوني‏}‏ فهما كلامان متعاقبان، ويظهر أن المحكي هنا هو القول الثاني، وأن ما في سورة طه هو الذي ابتدأ به هارون، لأنه كان جواباً عن قول موسى‏:‏ ‏{‏ما منعك إذ رأيتهم ضَلوا أن لا تتبعن‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 92، 93‏]‏‏.‏

واختيار التعريف بالإضافة؛ لتضمن المضاف إليه معنى التذكير بصلة الرحم، لأن إخوة الأم أشد أواصر القرابة؛ لاشتراك الأخوين في الألف من وقت الصبا والرضاع‏.‏

وفتح الميم في ‏{‏ابن أم‏}‏ قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عَمرو، وحفص عن عاصم، وهي لغة مشهورة في المنادى المضاف إلى أم أو عَم، وذلك بحذف ياء المتكلم وتعويض ألف عنها في آخر المنادى، ثم يحذف ذلك الألف تخفيفاً، ويجوز بقاء كسرة الميم على الأصل، وهي لغة مشهورة أيضاً، وبها قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلفٌ‏.‏

وتقدم الكلام على الأم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏23‏)‏‏.‏

وتأكيد الخبر ب ‏{‏إن‏}‏ لتحقيقه لدى موسى، لأنه بحيث يتردد فيه قبل إخبار المخبر به، والتأكيدُ يستدعيه قبولُ الخبر للتردد من قِبَل إخبار المخبر به، وإن كان المخبر لا يُظن به الكذب، أو لئلا يظن به أنه تَوهم ذلك من حال قومه، وكانت حالهم دون ذلك‏.‏

والسين والتاء في ‏{‏استضعفوني‏}‏ للحسبان أي حسبوني ضعيفاً لا ناصر لي، لأنهم تمالؤوا على عبادة العجل ولم يخالفهم إلا هارون في شرذمة قليلة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وكادوا يقتلونني‏}‏ يدل على أنه عارضهم معارضة شديدة ثم سلّم خشيةَ القتل‏.‏

والتفريع في قوله‏:‏ ‏{‏فَلا تُشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين‏}‏ تفريع على تبين عذره في إقرارهم على ذلك، فطلب من أخيه الكف عن عقابه الذي يَشْمت به الأعداء لأجله، ويجعله مع عداد الظالمين فطلبُ ذلك كنايةٌ عن طلب الإعراض عن العقاب‏.‏

والشماتة‏:‏ سُرور النفس بما يصيب غيرها من الإضرار، وإنما تحصل من العداوة والحسد‏.‏ وفعلَها قاصر كفرح، ومصدرها مخالف للقياس، ويتعدى الفعل إلى المفعول بالباء يقال‏:‏ شَمتَ به‏:‏ أي‏:‏ كان شامتاً بسببه، وأشمته به جعله شامتاً به، وأراد بالأعداء الذين دعوا إلى عبادة العجل، لأن هارون أنكره عليهم فكرهوه لذلك، ويجوز أن تكون شماتةُ الأعداء كلمة جرت مجرى المثل في الشيء الذي يُلحق بالمرءِ سوءاً شديداً، سواء كان للمرء أعداء أو لم يكونوا، جرياً على غالب العرْف‏.‏

ومعنى ‏{‏ولا تجعلْني مع القوم الظالمين‏}‏ لا تحسبني واحداً منهم، ف ‏(‏جعل‏)‏ بمعنى ظن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمان إناثاً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 19‏]‏‏.‏ والقوم الظالمون هم الذين أشركوا بالله عبادة العجل، ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ ولا تجعلني في العقوبة معهم، لأن مُوسى قد أمر بقتل الذين عَبدوا العجل، ف ‏(‏جعل‏)‏ على أصلها‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قال رب اغفر لي‏}‏ جواب عن كلام هارون، فلذلك فصلت‏.‏ وابتدأ موسى دعاءه فطلب المغفرة لنفسه تأدباً مع الله فيما ظهر عليه من الغضب، ثم طلب المغفرة لأخيه فيما عسى أن يكون قد ظهر منه من تفريط أو تساهل في ردع عبدة العجل عن ذلك‏.‏

وذكر وصف الأُخوة هناك زيادة في الاستعطاف عسى الله أن يُكرم رسوله بالمغفرة لأخيه كقول نوح‏:‏ ‏{‏رب إن ابني من أهلي‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 45‏]‏‏.‏

والإدخال في الرحمة استعارة لشمول الرحمة لهما في سائر أحوالهما، بحيث يكونان منها، كالمستقر في بيت أو نحوه مما يحوي، فالإدخال استعارة أصلية وحرف ‏(‏في‏)‏ استعارة تبعية، أوقع حرفه الظرفية موقع باء الملابسة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وأنت أرحم الراحمين‏}‏ تذييل، والواوُ للحال أو اعتراضية، و‏{‏أرحم الراحمين‏}‏ الأشد رحمة من كل راحم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏152- 153‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ‏(‏152‏)‏ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏153‏)‏‏}‏

يجوز أن قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين اتخذوا العجل‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏الدنيا‏}‏ من تمام كلام موسى، فبعد أن دعا لأخيه بالمغفرة أخبر أن الله غضب على الذين عبدوا العجل‏.‏ وأنه سيظهر أثر عضبه عليهم، وستنالهم ذلة في الدنيا وذلك بوحي تلقاه، وانتهى كلام موسى عند قوله‏:‏ ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏، وأن جملة‏:‏ ‏{‏وكذلك نجزي المفترين‏}‏ خطاب من جانب الله في القرآن، فهو اعتراض والواو اعتراضية ذيل الله بهذا الاعتراض حكاية كلام موسى فأخبر بأنه يجازي كل مفتر بمثل ما أخبر به موسى عن مفتري قومه، وأن جملة‏:‏ ‏{‏والذين عملوا السيئات‏}‏ إلى آخر الآية تكملة للفائدة ببيان حالة أضداد المتحدث عنهم وعن أمثالهم‏.‏

ويجوز أن تكون جملة‏:‏ ‏{‏إن الذين اتخذوا العجل‏}‏ إلى آخرها خطاباً من الله لموسى، جواباً عن دعائه لأخيه بالمغفرة بتقدير فعللِ قول محذوف‏:‏ أي قلنا إن الذين اتخذوا العجل إلى آخره، مثل ما حكى الله تعالى عن إبراهيم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 126‏]‏ الآية‏.‏

و ‏{‏ينالهم‏}‏ يصيبهم‏.‏

والنول والنّيْل‏:‏ الأخذُ وهو هنا استعارة للإصابة والتلبس كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب‏}‏ في هذه السورة ‏(‏37‏)‏، والذين اتخذوا العجل هم الذين عبدوه فالمفعول الثاني ‏{‏لاتخذوا‏}‏ محذوف اختصاراً، أي اتخذوه إلاهاً‏.‏

وتعريفهم بطريق الموصولية، لأنها أخصر طريق في استحضارهم بصفة عرفوا بها، ولأنه يؤذن بسببية ما نالهم من العقاب، والمراد بالغضب ظهور أثره من الخذلان ومنع العناية، وأما نفس الغضب فهو حاصل في الحال‏.‏

وغضب الله تعالى إرادته السوء بعبده وعقابه في الدنيا والآخرة أو في إحداهما‏.‏

والذلة‏:‏ خضوع في النفس واستكانة من جرّاء العجز عن الدفع، فمعنى‏:‏ نيل الذلّة إياهم أنهم يصيرون مغلوبين لمن يغلبهم، فقد يكون ذلك بتسليط العدو عليهم، أو بسلب الشجاعة من نفوسهم‏.‏ بحيث يكونون خائفين العدو، ولو لم يسلّط عليهم، أو ذلّة الاغتراب إذ حرمهم الله ملك الأرض المقدسة فكانوا بلا وطن طول حياتهم حتى انقرض ذلك الجيل كله، وهذه الذلّة عقوبة دنيوية قد لا تمحوها التوبة، فإن التوبة إنما تقتضي العفو عن عقاب التكليف، ولا تقتضي ترك المؤاخذة بمصائب الدنيا، لأن العقوبات الدنيوية مسببات تنشأ عن أسبابها، فلا يلزم أن ترفعها التوبة إلا بعناية إلهية خاصة، وهذا يشبه التفرقة بين خطاب الوضع وخطاب التكليف كما يؤخذ من حديث الإسراء لما أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناءَيْن أحدهما من لبن والآخر من خمر، فاختار اللبن، فقال جبريل‏:‏ الحمد لله الذي هداك للفطرة لو أخذت الخمر لغَوَتْ أمتك، هذا وقد يمحو الله العقوبة الدنيوية إذا رَضي عن الجاني والله ذو فضل عظيم‏.‏

والقول في الإشارة من قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ تقدم في قوله ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏، أي ومثل ذلك الجزاء العظيم نجزي المفترين‏.‏

والافتراء الكذب الذي لا شبهة لكاذبه في اختلاقه، وقد مضى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏103‏)‏‏.‏

والمراد بالافتراء الاختلاق في أصول الدين بوضع عقائِدَ لا تستند إلى دليل صحيح من دلالة العقل أو من دلالة الوحي، فإن موسى عليه السلام كان حذرهم من عبادة الأصنام كما حكاه الله فيما مضى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138 140‏]‏ الآيات الثلاث المتقدمة آنفاً، فجعل الله جزاءهم على الافتراء الغضبَ والذلة، وذلك إذا فعلوا مثله بعد أن جاءتهم الموعظة من الله، ولذلك لم يكن مشركو العرب أذلاّء، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم وهداهم فاستمروا على الافتراء عاقبهم الله بالذلة، فأزال مهابتهم من قلوب العرب، واستأصلهم قتلاً وأسراً، وسلَب ديارهم، فلما أسلم منهم من أسلموا صاروا أعزة بالإسلام‏.‏

ويؤخذ من هذه الآية أن الكذاب يُرمى بالمذلّة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والذين عملوا السيئات ثم تابوا‏}‏ الآية اعتراض بأنهم إن تابوا وآمنوا يغفر الله لهم على عادة القرآن من تعقيب التهديد بالترغيب، والمغفرة ترجع إلى عدم مؤاخذتهم بذنوبهم في عقاب الآخرة، وإلى ارتفاع غضب الله عنهم في المستقبل، والمراد بالسيئات‏:‏ ما يشمل الكفر، وهو أعظم السيّئات‏.‏ والتوبةُ منه هي الإيمان‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏من بعدها‏}‏ في الموضعين حذف مضاف قبل ما أضيفت إليه ‏(‏بَعْد‏)‏ وقد شاع حذفهُ دل عليه ‏{‏عملوا‏}‏ أي من بَعد عَملها، وقد تقدم الكلام على حذف المضاف مع ‏(‏بعد‏)‏ و‏(‏قبل‏)‏ المضافين إلى مضاف للمضاف إليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم اتخذتم العجل من بعده‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏51‏)‏‏.‏

وحرف ‏(‏ثم‏)‏ هنا مفيد للتراخي، وذلك إلجاء إلى قبول التوبة، ولو بعد زمان طويل مملوء بفعل السيّئات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من بعدها‏}‏ تأكيد لمفاد المهلة التي أفادها حرف ‏(‏ثم‏)‏ وهذا تعريض للمشركين بأنهم إن آمنوا يغفر لهم ولو طال أمد الشرك عليهم‏.‏

وعطف الإيمان على التوبة، مع أن التوبة تشمله من حيث إن الإيمان توبة من الكفر، إما للاهتمام به، لأنه أصل الاعتداد بالأعمال الصالحة عند الله تعالى كقوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما العقبة فكّ رقبة إلى قوله‏:‏ ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 12 17‏]‏‏.‏ ولئلا يظن أن الإشراك لخطورته لا تنجي منه التوبة‏.‏

وإما أن يراد بالإيمان إيمان خاص، وهو الإيمان بإخلاص، فيشمل عمل الواجبات‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏إن ربك‏}‏ لمحمد صلى الله عليه وسلم على الوجه الأظهر، أو لموسى على جعل قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين اتخذوا العجل‏}‏ مقولاً من الله لموسى‏.‏

وفي تعريف المسند إليه بالإضافة توسل إلى تشريف المضاف إليه بأنه مربوب لله تعالى، وفي ذكر وصف الربوبية هنا تمهيد لوصف الرحمة‏.‏

وتأكيد الخبر بإن ولام التوكيد وصيغتي المبالغة في ‏{‏غفور رحيم‏}‏ لمزيد الاهتمام به ترغيب للعصاة في التوبة، وطرداً للقنوط من نفوسهم، وإن عظمت ذنوبهم، فلا يحسبوا تحديد التوبة بحد إذا تجاوزتْه الذنوب بالكثرة أو العِظَم لم تقبل منه توبة‏.‏

وضمير‏:‏ ‏{‏من بعدها‏}‏ الثاني مبالغة في الامتنان بقبول توبتهم بعد التملّي من السيئات‏.‏

وحذف متعلق ‏{‏غفور رحيم‏}‏ لظهوره من السياق، والتقدير‏:‏ لغفور رحيم لهم‏.‏ أو لكل من عمل سيّئة وتاب منها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ‏(‏154‏)‏‏}‏

نظم هذا الكلام مثل نظم قوله‏:‏ ‏{‏ولما سقط في أيديهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 149‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولما رجع موسى إلى قومه غضبان‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 150‏]‏، أي‏:‏ ثم سكَت عن موسى الغضب ولَمّا سكت عنه أخذ الألواح‏.‏ وهذه الجملة عطف على جملة ‏{‏ولما رجع موسى إلى قومه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 150‏]‏‏.‏

والسكوت مستعار لذهاب الغضب عنهُ، شُبّه ثَوَرانُ الغضب في نفس موسى المنشئ خواطر العقوبة لأخيه ولقومه، وإلقاء الألواح حتى انكسرت، بكلام شخصُ يغريه بذلك، وحسّن هذا التشبيه أن الغضبان يجيش في نفسه حديث للنفس يدفعه إلى أفعال يطفئ بها ثَوران غضبه، فإذا سكن غضبه وهدَأت نفْسه كان ذلك بمنزلة سكوت المغري، فلذلك أطلق عليه السكوت، وهذا يستلزم تشبيه الغضب بالناطق المغري على طريقة المكنية، فاجتمع استعارتان، أو هو استعارة تمثيلية مكنية؛ لأنه لم تذكر الهيئة المشبهُ بها ورُمزَ إليها بذكر شيء من رَوادفها وهو السكوت، وفي هذا ما يؤيد أن إلقاء الألواح كان أثر للغضب‏.‏

والتعريف في ‏{‏الألواح‏}‏ للعهد، أي الألواح التي ألقاها، وإنما أخذها حفظاً لها للعمل بها، لأن انكسارها لا يضيع ما فيها من الكتابة‏.‏

والنُسخة بمعنى المنسوخ، كالخُطبة والقُبضة، والنّسخ هو نقللِ مثل المكتوب في لوح أو صحيفة أخرى، وهذا يقتضي أن هذه الألواح أخذت منها نسخة، لأن النسخة أضيفت إلى ضمير الألواح، وهذا من الإيجاز، إذ التقدير‏:‏ أخذ الألواح فجُعلت منها نسخة وفي نسختها هدى ورحمة، وهذا يشير إلى ما في التوراة في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر الخروج «ثم قال الرب لموسى إنحت لك لوحين من حجر مثل الأولين فأكتُبُ أنا على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين اللذين كسرتهما» ثم قال «فنحت لوحين من حجر كالأولين إلاهان» قال «وقال الرب لموسى أكتُبْ لنفسك هذه الكلمات» إلى أن قال «فكتَب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر»‏.‏

فوصْفُ النسخة بأن فيها هدى ورحمة يستلزم الأصل المنتسخ بذلك، لأن ما في النسخة نظيرُ ما في الأصل، وإنما ذكر لفظ النسخة هنا إشارة إلى أن اللوحتين الأصليين عوضا بنسخة لهما، وقد قيل إن رضاض الألواح الأصلية وضعه في تابوت العهد الذي أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏248‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏للذين هم لربهم يرهبون‏}‏ يتنازع تعلّقه كلٌ من ‏{‏هدى‏}‏ و‏{‏رحمة‏}‏، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لربهم يرهبون‏}‏ لام التقوية دخلت على المفعول لضعف العامل بتأخيره عن المعمول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 157‏]‏

‏{‏وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ‏(‏155‏)‏ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏156‏)‏ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

‏{‏واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لميقاتنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وإياى أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين واكتب لَنَا فِى هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الاخرة إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ‏}‏‏.‏

عطفت جملة ‏{‏واختار موسى‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏واتخذ قوم موسى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏ عطَف القصة على القصة‏:‏ لأن هذه القصة أيضاً من مواقع الموعظة والعبرة بين العبَر المأخوذة من قصة موسى مع بني إسرائيل، فإن في هذه عبرة بعظمة الله تعالى ورحمته، ودعاء موسى بما فيه جُماع الخيرات والبشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وملاك شريعته‏.‏

والاختيار تمييز المرغوب من بين ما هو مخلوط من مرغوب وضده، وهو زنة افتعال من الخير صيغ الفعل من غير دلالة على مطاوعة لفعل ‏(‏خار‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سبعين رجلا‏}‏ بدل من ‏{‏قَوْمَه‏}‏ بدلَ بعض من كل، وقيل إنما نُصب قوَمه على حذف حرف الجر، والتقدير‏:‏ اختار من قومه، قالوا وحذْفُ الجار من المتعلق الذي هو في رتبة المفعول الثاني شائِع في ثلاثة أفعال‏:‏ اختار، واستغفر وأمر، ومنه أمْرُتك الخير وعلى هذا يكون قوله‏:‏ ‏{‏سبعين‏}‏ مفعولاً أول‏.‏ وأيّاً مَّا كان فبناء نظم الكلام على ذكر القوم ابتداء دون الاقتصار على سبعين رجلاً اقتضاه حال الإيجاز في الحكاية، وهو من مقاصد القرآن‏.‏

وهذا الاختيار وقع عندما أمره الله بالمجيئ للمناجاة التي تقدم ذكرها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وواعدنا موسى ثلاثين ليلة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏ الآية، فقد جاء في التوراة في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الخروج‏:‏ إن الله أمر موسى أن يصعد طور سينا هو وهارون و‏(‏ناداب‏)‏ و‏(‏أبيهو‏)‏ و‏(‏يشوع‏)‏ وسبعون من شيوخ بني إسرائيل ويكون شيوخ بني إسرائيل في مكان معين من الجبل ويتقد موسى حتى يدخل في السحاب ليسمع كلام الله وأن الله لما تجلى للجبل ارتجف الجبل ومكث موسى أربعين يوماً‏.‏ وجاء في الإصحاح الثاني والثلاثين والذي يعده، بعدَ ذكر عبادتهم العجل وكسر الألواح، أن الله أمر موسى بأن ينحت لوحين من حجر مثل الأولين ليكتب عليهما الكلمات العشر المكتوبة على اللوحين المنكسرين وأن يصعد إلى طور سينا وذكرتْ صفة صعود تقارب الصفة التي في الإصحاح الرابع والعشرين، وأن الله قال لموسى من أخطأ أمحُوه من كتابي، وأن موسى سجد لله تعالى واستغفر لقومه قلة امتثالهم وقال فإن عفرْتَ خطيئتهم وإلا فامحُني من كتابك‏.‏ وجاء في الإصحاح التاسع من سفر التثنية‏:‏ أن موسى لما صعد الطور في المناجاة الثانية صام أربعين يوماً وأربعين ليلة لا يأكل طعاماً ولا يشرب ماء استغفاراً لخطيئة قومه وطلباً للعفو عنهم‏.‏

فتبين مما في التوراة أن الله جعل لموسى ميقاتين للمناجاة، وأنه اختار سبعين رجلاً للمناجاة الأولى ولم تَذْكر اختيارهم للمناجاة الثانية، ولما كانت المناجاة الثانية كالتكملة للأولى تعيّن أن موسى استصحب معه السبعين المختارين، ولذلك وقعت فيها الرجفة مثل المرة الأولى، ولم يذكر القرآن أن الرجفة أخذتهم في المرة الأولى، وإنما ذكر أن موسى خَرَّ صعقاً، ويتعين أن يكون السبعون قد أصابهم ما أصاب موسى لأنهم كانوا في الجبل أيضاً، وذكر الرجفة في المرة الثانية ولم تذكرها التوراة‏.‏

والضمير في أخذتهم الرجفة للسبعين‏.‏ فالظاهر أن المراد في هذه الآية هو حكاية حال ميقات المناجاة الثانية التي وقع فيها الاستغفار لقومه، وأن الرجفة المحكية هنا رجفة أخذتهم مثل الرجفة التي أخذتهم في المناجاة الأولى، لأن الرجفة تكون من تجلي أثر عظيم من آثار الصفات الإلهية كما تقدم، فإن قول موسى ‏{‏اتهلكنا بما فعل السفهاء منا‏}‏ يؤذن بأنه يعني به عبادتهم العجل، وحضورَهم ذلك‏.‏ وسكوتهم، وهي المعنيُ بقوله‏:‏ ‏{‏إن هي إلا فتنتك‏}‏ وقد خشي موسى أن تلك الرجفة مقدمة عذاب كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يخشى الريح أن يكون مبدأ عذاب‏.‏

ويجوز أن يكون ذلك في المناجاة الأولى وأن قوله‏:‏ ‏{‏بما فعل السفهاء منا‏}‏ يعني به ما صدر من بني إسرائيل من التصلب قبل المناجاة، كقولهم ‏{‏لن نصبر على طعام واحد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 61‏]‏، وسؤالهم رؤية الله تعالى‏.‏ لكن الظاهر أن مثل ذلك لا يطلق عليه ‏(‏فَعَل‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏بما فعل السفهاء منا‏}‏‏.‏ والحاصل أن موضع العبرة في هذه القصة هو التوقي من غضب الله، وخوف بطشه، ومقامُ الرسل من الخشية، ودعاء موسى، إلخ‏.‏

وقد صيغ نظم الكلام في قوله‏:‏ ‏{‏فلما أخذتهم الرجفة‏}‏ على نحو ما صيغ عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولما رجع موسى إلى قومه غضبانَ أسفا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 150‏]‏ كما تقدم‏.‏

والأخذ مجاز في الإصابة الشديدة المتمكنة تمكن الآخذ من المأخوذ‏.‏

و ‏(‏لو‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏لو شئت أهلكتهم‏}‏ يجوز أن تكون مستعملة في التمني وهو معنى مجازي ناشئ من معنى الامتناع الذي هو معنى ‏(‏لو‏)‏ الأصلي ومنه قول المثل ‏(‏لو ذات سوار لطمتني‏)‏ إذ تقدير الجواب‏.‏ لو لطمتني لكان أهون علي، وقد صرح بالجواب في الآية وهو ‏{‏شئت أهلكتهم‏}‏ أي ليتك أردت إهلاكهم أي السبعين الذين معه‏.‏ فجملة أهلكتهم بدل اشتمال من جملة ‏{‏شئت‏}‏ من قبل خطيئة القوم التي تسبب عنها الرجوع إلى المناجاة‏.‏

وعلى هذا التقدير في ‏(‏لو‏)‏ لا يكون، في قوله ‏{‏أهلكتهم‏}‏ حذف اللام التي من شأنها أن تقترن بجواب ‏(‏لو‏)‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏أهلكتهم‏}‏ وإياي ولم يقل‏:‏ أهلكتنا، للتفرقة بين الإهلاكين لأن إهلاك السبعين لأجل سكوتهم على عبادة العجل، وإهلاك موسى، قد يكون لأجل أن لا يشهد هلاك القوم، قال تعالى‏:‏

‏{‏فلما جاء أمرنا نجينا هوداً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 58‏]‏ الآية ونظائرها كثيرة، وقد خشي موسى أن الله يهلك جميع القوم بتلك الرجفة لأن سائر القوم أجدر بالإهلاك من السبعين، وقد أشارت التوراة إلى هذا في الإصحاح «فرجع موسى إلى الله وقال إن الشعب قد أخطأ خطيئة عظيمة وصنعوا لأنفسهم آلهة فان غفرت لهم خطيئتهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت‏.‏ فقال الله لموسى من أخطأ إليّ أمحوه من كتابي» فالمحو من الكتاب هو محو تقدير الله له الحياةَ محوَ غضب، وهو المحكي في الآية بقوله ‏{‏لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا‏}‏ وقد خشي موسى أن تكون تلك الرجفة إمارة غضب ومقدمة إهلاك عقوبة على عبادتهم العجل، فلذلك قال ‏{‏اتهلكنا بما فعل السفهاء منا‏}‏ فالسفهاء هم الذين عبدوا العجل وسمي شركهم سفهاً؛ لأنه شرك مشوب بخسة عقل إذ جعلوا صورة صنعوها بأنفسهم إلهاً لهم‏.‏

ويجوز أن يكون حرف ‏(‏لو‏)‏ مستعملاً في معناه الأصلي‏:‏ من امتناع جوابه لامتناع شرطه، فيتجه أن يتساءل عن موجب حذف اللام من جواب ‏(‏لو‏)‏ ولم يقل‏:‏ لأهلكتهم مع أن الغالب في جوابها الماضي المثبت أن يقترن باللام فحذف اللام هنا لنكتة أن التلازم بين شرط لو وجوابها هنا قوي لظهور أن الإهلاك من فعل الله وحده فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو نشاء جعلناه أجاجاً‏}‏ سورة الواقعة ‏(‏70‏)‏ وسيأتي بيانه‏.‏ ويكون المعنى اعترافاً بمنة العفو عنهم فيما سبق، وتمهيداً للتعريض بطلب العفو عنهم الآن، وهو المقصود من قوله ‏{‏أتهلكنا بما فعل السفهاء‏}‏ أي أنك لم تشأ إهلاكهم حين تلبسوا بعبادة العجل فلا تهلكهم الآن‏.‏

والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أتهلكنا‏}‏ مستعمل في التفجع أي‏:‏ أخشى ذلك، لأن القوم استحقوا العذاب ويخشى أن يشمل عذابُ الله من كان مع القوم المستحقين وإن لم يشاركهم في سبب العذاب، كما قال‏:‏ ‏{‏واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏ وفي حديث أم سلمة أنها قالت‏:‏ ‏"‏ يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبثُ ‏"‏ وفي حديث آخر، ‏"‏ ثم يحشرون على نياتهم ‏"‏ وقد خشي موسى سوء الظنة لنفسه ولأخيه وللبراء من قومه أن يُظنهم الأمم التي يبلغها خبرهم أنهم مجرمون‏.‏

وإنما جمع الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏أتهلكنا‏}‏ لأن هذا الإهلاك هو الإهلاك المتوقع من استمرار الرجفة، وتوقعه واحد في زمن واحد، بخلاف الإهلاك المتقدم ذكره فسببه مختلف فناسب توزيع مفعوله‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏أتهلكنا‏}‏ مستأنفة على طريقة تقطيع كلام الحزين الخائف السائل‏.‏ وكذلك جملة‏:‏ ‏{‏إن هي إلا فتنتك‏}‏ وجملة ‏{‏أنت ولينا‏}‏‏.‏

وضمير ‏{‏إن هي‏}‏ راجع إلى ما فعل السفهاء لأن ما صْدقَ ما فعل السفهاء هو الفتنة، والمعنى‏:‏ ليست الفتنةُ الحاصلة بعبادة العجل إلا فتنة منك، أي من تقديرك وخلْق أسباببِ حدوثها، مثل سخافة عقول القوم، وإعجابهم بأصنام الكنعانيين، وعيبة موسى، وليننِ هارون، وخشيته من القوم، وخشية شيوخ إسرائيل من عامتهم، وغير ذلك مما يعلمه الله وأيقن موسى به إيقاناً إجمالياً‏.‏

والخبر في قوله‏:‏ ‏{‏إن هي إلا فتنتك‏}‏ الآية‏:‏ مستعمل في إنشاء التمجيد بسعة العلم والقدرة، والتعريض بطلب استبقائهم وهدايتهم، وليس مستعملاً في الاعتذار لقومه بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏تضل بها من تشاء‏}‏ الذي هو في موضع الحال من ‏{‏فتنتك‏}‏ فالإضلال بها حال من أحْوالها‏.‏

ثم عرَّض بطلب الهداية لهم بقوله‏:‏ ‏{‏وتهدي من تشاء‏}‏ والمجرور في قوله ‏{‏بها‏}‏ متعلق بفعل ‏{‏تضل‏}‏ وحده ولا يتنازعه معه فعل ‏{‏تهدي‏}‏ لأن الفتنة لا تكون سبب هداية بقرينة تسميتها فتنة، فمن قدر في التفسير‏:‏ وتهدي بها أو نحوه، فقد غفل‏.‏

والباء‏:‏ إما للملابسة، أي تضل من تشاء ملابساً لها، وإما للسببية، أي تضل بسبب تلك الفتنة، فهي من جهة فتنة، ومن جهة سبب ضلال‏.‏

والفتنة ما يقع به اضطراب الأحوال، ومرجها، وتشتت البال، وقد مضى تفسيرها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعلّمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏102‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وحسبوا أن لا تكون فتنة‏}‏ في سورة العقود ‏(‏71‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏23‏)‏‏.‏

والقصد من جملة‏:‏ ‏{‏أنت ولينا‏}‏ الاعتراف بالانقطاع لعبادة الله تعالى، تمهيداً لمطلب المغفرة والرحمة، لأن شأن الولي أن يرحم مولاه وينصره‏.‏

والولي‏:‏ الذي له وَلاية على أحد، والوَلايةِ حلف أو عتق يقتضي النصرة والإعانة، فإن كان من جانبين متكافئين فكلا المتعاقدين يقال له مَولى، وإن كان أحد الجانبين أقوى قيل للقوي ‏(‏ولي‏)‏ وللضعيف ‏(‏مَولى‏)‏ وإذ قد كانت الولاية غير قابلة للتعدد، لأن المرء لا يتولى غيرَ مواليه، كان قوله‏:‏ ‏{‏أنتَ ولينا‏}‏ مقتضياً عدم الانتصار بغير الله‏.‏ وفي صريحه صيغة قصر‏.‏

والتفريع عن الولاية في قوله‏:‏ ‏{‏فاغفر لنا‏}‏ تفريع كلام على كلام وليس المراد أن الولي يتعين عليه الغفران‏.‏

وقدم المغفرة على الرحمة لأن المغفرة سبب لرحمات كثيرة، فإن المغفرة تنهية لغضب الله المترتب على الذنب، فإذا انتهى الغضب تسنى أن يخلفه الرضا‏.‏ والرضا يقتضي الإحسان‏.‏

و ‏{‏وخيرُ الغافرين‏}‏ الذي يغفر كثيراً، وقد تقدم قريب منه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل الله مولاكم وهو خير الناصرين‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏150‏)‏‏.‏

وإنما عطف جملة‏:‏ ‏{‏وأنت خير الغافرين‏}‏ لأنه خبر في معنى طلب المغفرة العظيمة، فعطف على الدعاء، كانه قيل‏:‏ فاغفر لنا وارحمنا واغفر لنا جميع ذنوبنا، لأن الزيادة في المغفرة من آثار الرحمة‏.‏

و ‏{‏اكتُب‏}‏ مستعار لمعنى العطاء المحقَق حصوله، المجدد مرة بعد مرة، لأن الذي يريد تحقيقَ عقد أو عدة، أو عطاء، وتعلّقه بالتجدد في المستقبل يكتب به في صحيفة، فلا يقبل النكران، ولا النقصان، ولا الرجوع، وتسمى تلك الكتابة عهداً، ومنه ما كتبوه في صحيفة القطيعة، وما كتبوه من حلف ذي المجاز، قال الحارث بن حلزة‏:‏

حذر الجَور والتطاخي وهل ينقض ما في المهارق الأهواء

ولو كان العطاء أو التعاقد لمرة واحدة لم يحتج للكتابة، لأن الحوز أو التمكين مغن عن الكتابة، كما قال تعالى‏:‏

‏{‏إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ فالمعنى‏:‏ آتنا الحسنة تلو الحسنة في أزمان حياتنا وفي يوم القيامة، دل على هذا المعنى لفظ ‏{‏اكتب‏}‏ ولولاه لكان دعاء صادقاً باعطاء حسنة واحدة، فيحتاج إلى الاستعانة على العموم بقرينة الدعاء، فإن النكرة يراد بها العموم في سياق الدعاء كقول الحريري في المقامة الخامسة‏:‏

يا أهل ذا المغنى وُقيتم ضُرا ***

‏(‏أي كل ضر وليس المراد وقيتم ضرا معيّنا‏)‏‏.‏

والحسنة الحالة الحسنة، وهي‏:‏ في الدنيا المرضية للناس، ولله تعالى، فتجمع خير الدنيا والدين، وفي الآخرة حالة الكمال، وقد تقدم بيانها في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏201‏)‏‏.‏

وجملة‏:‏ إنا هدنا إليك‏}‏ مسوقة مساق التعليل للطلب والاستجابة، ولذلك فصلت ولان موقع حرف التأكيد في أولها موقع الاهتمام، فيفيد التعليل والربط، ويغني غناء فاء السببية كما تقدم غير مرة‏.‏

و ‏{‏هُدْنا‏}‏ معناه تبنا، يقال‏:‏ هَادَ يهود إذا رجع وتاب فهو مَضموم الهاء في هذه الآية باتفاق القراءات المتواترة والمعنى تبنا مما عسى أن نكون ألممنا به من ذنب وتقصير، وهذا إخبار عن نفسه، وعن المختارين من قومه، بما يعلم من صدق سرائرهم‏.‏

جملة‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ الخ جوابٌ لكلام موسى عليه السلام، فلذلك فصلت لوقوعها على طريقة المحاورة، كما تقدم غير مرة، وكلام موسى، وإن كان طلبا، وهو لا يستدعي جواباً، فإن جواب الطالب عناية به وفضْل‏.‏

والمراد بالعذاب هنا عذاب الدنيا، لأن الكلام جواب لقول موسى‏:‏ ‏{‏أتهلكنا بما فعل السفهاء منا‏}‏ والإهلاك عذاب، فبيّن اللَّهُ له أن عذاب الدنيا يصيب الله به من يشاء من عباده، وقد اجمل الله سبب المشيئة وهو أعلم به، وموسى يعلمه إجمالاً، فالكلام يتضمن طمأنة موسى من أن يناله العذاب هو والبزآء من قومه، لأن الله أعظم من أن يعاملهم معاملةَ المجرمين‏.‏ والمعنى إني قادر على تخصيص العذاب بمن عصوا وتنجية من لم يشارك في العصيان، وجاء الكلام على طريقة مجملة شأن كلام مَن لا يُسأل عما يعقل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ورحمتي وسعت كل شيء‏}‏ مقابل قول موسى‏:‏ ‏{‏فاغفر لنا وارحمنا‏}‏‏.‏ وهو وعد تعريض بحصول الرحمة المسؤولة له ولمن معه من المختارين، لأنها لما وسعت كل شيء فهم أرجى الناس بها، وأن العاصين هم أيضاً مغمورون بالرحمة، فمنها رحمة الإمهال والرزق، ولكن رحمة الله عباده ذات مراتب متفاوتة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عذابي أصيب به من اشاء‏}‏ إلى قوله ‏{‏كل شيء‏}‏ جواب إجمالي، هو تمهيد للجواب التفصيلي في قوله‏:‏ ‏{‏فسأكتبها‏}‏‏.‏

والتفريع في قوله‏:‏ ‏{‏فسأكتبها‏}‏ تفريع على سعة الرحمة، لأنها لما وسعت كل شيء كان منها ما يكتب أي يعطى في المستقبل للذين أجريت عليهم الصفات ويتضمن ذلك وعداً لموسى ولصلحاء قومه لتحقق تلك الصفات فيهم، وهو وعد ناظر إلى قول موسى ‏{‏إنا هدنا إليك‏}‏ والضمير المنصوب في ‏{‏أكْتُبها‏}‏ عائدِ إلى ‏{‏رحمتي‏}‏ فهو ضمير جنس، وهو مساو للمعرف بلام الجنس، أي اكتب فَردا من هذا الجنس لأصحاب هذه الصفات، وليس المراد أنه يكتب جميع الرحمة لهؤلاء لأن هذا غير معروف في الاستعمال في الإخبار عن الأجناس، لكن يُعلم من السياق أن هذا النوع من الرحمة نوع عظيم بقرينة الثناء على متعلِقها بصفات توذن باستحقاقها، وبقرينة السكوت عن غيره، فيعلم أن لهذا المتعلِق رحمة خاصة عظيمة وأن غيره داخل في بعض مراتب عموم الرحمة المعلومة من قوله‏:‏ ‏{‏وَسِعت كل شيء‏}‏ وقد أفصح عن هذا المعنى الحصر في قوله في آخر الآية ‏{‏أولئك هم المفلحون‏}‏‏.‏

وتقدم معنى ‏{‏أكتبها‏}‏ قريباً‏.‏

وقد تقدم معنى‏:‏ ‏{‏وسعت كل شيء‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسع ربنا كل شيء علما‏}‏ في هذه السورة ‏(‏89‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الرحمة التي سألها موسى له ولقومه وعدَ اللَّهُ بإعطائِها لمن كان منهم متصفاً بأنه من المتقين والمؤتين الزكاة، ولمن كان من المؤمنين بآيات الله، والآياتُ تصدق‏:‏ بدلاِئل صدق الرسل، وبكلمات الله التي شرع بها للناس رَشادهم وهديهم، ولا سيما القرآن لأن كل مقدار ثلاث آيات منه هو آية لأنهُ معجز فدال على صدق الرسول، وهو المقصود هنا، وهم الذين يتبعون الرسول الامي إذا جاءهم، أي يطيعونه فيما يأمرهم، ولما جعلت هذه الأشياء بسبب تلك الرحمة علم أن التحصيل على بعضها يحصّل بعض تلك الرحمة بما يناسبه، بشرط الإيمان، كما علم من آيات أخرى خاطب الله بها موسى كقوله آنفاً ‏{‏والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 153‏]‏ فتشمل هذه الرحمة من اتقى وآمن وآتى الزكاة من بني إسرائيل قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فإن أتباعهم إياه متعذر الحصول قبل بعثته، ولكن يجب أن يكونوا عازمين على اتباعه عند مجيئه إن كانوا عالمين بذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81، 82‏]‏‏.‏ وتشمل الرحمة أيضاً الذين يؤمنون بآيات الله، والمعنى بها الآيات التي ستجيء في المستقبل، لأن آيات موسى قد استقر الإيمان بها يومئذ، وهذا موجب إعادة اسم الموصول في ذكر أصحاب هذه الصلة، للإشارة إلى أنهم طائفة أخرى، وهم من يكون عند بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك أبدل منهم قوله‏:‏ ‏{‏الذين يتبعون الرسولَ‏}‏ إلخ‏.‏

وهو إشارة إلى اليهود والنصارى الكائنين في زمن البعثة وبعدها لقوله‏:‏ ‏{‏الذي يجدونه مكتوباً عندهم‏}‏ ولقوله‏:‏ ‏{‏ويضع عنهم إصرهم والأغلالَ التي كانت عليهم‏}‏ فإنه يدل على أنهم كانوا أهل شريعة فيها شدة وحرج، والمراد بآيات الله‏:‏ القرآن، لأن ألفاظه هي المخصوصة باسم الآيات، لأنها جُعلت معجزات للفصحاء عن معارضتها‏.‏ ودالة على أنها من عند الله وعلى صدق رسوله، كما تقدم في المقدمة الثامنة‏.‏

وفي هذه الآية بشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وهي مشيرة إلى ما في التوراة من الإصحاح العاشر حتى الرابع عشر، والاصحاح الثامن عشر من سفر التثنية‏:‏ فإن موسى بعد أن ذكَرهم بخطيئة عبادتهم العجل، وذكر مناجاته لله للدعاء لهم بالمغفرة، كما تضمنه الاصحاح التاسع من ذلك السفر، وذكرناه آنفاً في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا‏}‏، ثم ذكر في الإصحاح العاشر أمرهم بالتقوى بقوله‏:‏ «فالآن يا إسرائيل ما يطلب منكَ الرب إلا أن تتقي ربك لتسلك في طرقه وتحبه»‏.‏ ثم ذكر فيه وفي الثلاثة بعده وصايا تفصيلاً للتقوى، ثم ذكر في الاصحاح الرابع عشر الزكاة فقال «تعشيراً تعشر كل محصول زرعك سنة بسنة عشر حنطتك وخمرك وزيتك وأبكار بقرك وغنمك، وفي آخر ثلاث سنين تخرج كل عشر محصولك في تلك السنة فتضعه في أبوابك فيأتي اللاوي والغريب واليتيم والأرملة الذين على أبوابك فيأكلون ويشبعون» إلخ‏.‏ ثم ذكر أحكاماً كثيرة في الإصحاحات الثلاثة بعده‏.‏

ثم في الإصحاح الثامن عشر قوله‏:‏ «يُقيم لك الرب نبياً ومن وسط إخواتك مثلي له تسمعون حسب كل ما طلبتُ من الرب في حُوريب ‏(‏أي جبل الطور حين المناجاة‏)‏ يوم الاجتماع قال لي الرب أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك وأجعلُ كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به» فدل هذا على أن هذا النبي من غير بني إسرائيل لقوله‏:‏ «من وسط أخوتك» فإن الخطاب لبني إسرائيل، ولا يكونون إخوة لأنفسهم‏.‏ وإخوتُهم هم أبناء أخي أبيهم‏:‏ إسماعيل أخي إسحاق، وهم العرب، ولو كان المراد به نبيئاً من بني إسرائيل مثل ‏(‏صمويل‏)‏ كما يؤوله اليهود لقال‏:‏ من بينكم أو من وسطكم، وعُلم أن النبي رسول بشرع جديد من قوله‏:‏ «مثلك» فإن موسى كان نبياً رسولاً، فقد جمع القرآن ذلك كله في قوله‏:‏ ‏{‏للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون‏}‏ إلخ‏.‏

ومن نكت القرآن الجمع في هذه الآية بين وصفي النبوة والرسالة للإشارة إلى أن اليهود بدّلوا وصف الرسول، وعبروا عنه بالنبي، ليصدق على أنبياء ليصدق على أنبياء بني إسرائيل، وغفلوا عن مفاد قوله مثلك، وحذفوا وصف الأمي، وقد كانت هذه الآية سبب إسلام الحبر العظيم الأندلسي السموأل بن يحيى اليهودي، كما حكاه عن نفسه في كتابه الذي سماه «غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود»‏.‏

فهذه الرحمة العظيمة تختص بالذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى، وتشمل الرسل والأنبياء الذين أخذ الله عليهم العهد بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فكانوا عالمين ببعثته يقيناً فهم آمنوا به، وتنزلوا منزلة من اتبع ما جاء به، لأنهم استعدوا لذلك، وتشمل المسلمين من العرب وغيرهم غير بني إسرائيل، لأنهم ساروا من آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام من اليهود في اتباع الرسول النبي الأمي‏.‏

وتقديم وصف الرسول لأنه الوصف الأخص الأهم، ولأن في تقديمه زيادة تسجيل لتحريف أهل الكتاب، حيث حذفوا هذا الوصف ليصير كلام التوراة صادقاً بمن أتى بعد موسى من أنبياء بني إسرائيل، ولأن محمداً صلى الله عليه وسلم اتشهر بوصف النبي الأمي، فصار هذا المركب كاللقب له، فلذلك لا يغير عن شهرته، وكذلك هو حيثما ورد ذكره في القرآن‏.‏

والأمي‏:‏ الذي لا يعرف الكتابة والقراءة، قيل هو منسوب إلى الأم أي هو أشبه بأمه منه بأبيه، لأن النساء في العرب ما كُنّ يعرفن القراءة والكتابة، وما تعلمْنها إلاّ في الإسلام، فصار تعلم القراءة والكتابة من شعار الحرائر دون الإماء كما قال عُبيْد الراعي، وهو إسلامي‏:‏

هُنَّ الحرائِر لا ربّاتُ أخمرَة *** سُودُ المحاجِر لا يقْرأن بالسّوَرِ

أما الرجال ففيهم من يقرأ ويكتب‏.‏

وقيل‏:‏ منسوب إلى الأمّة أي الذي حاله حال معظم الأمة، أي الأمة المعهودة عندهم وهي العربية، وكانوا في الجاهلية لا يعرف منهم القراءة والكتابة إلاّ النادر منهم، ولذلك يصفهم أهلُ الكتاب بالأُمييّن، لما حكى الله تعالى عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأُميين سبيل‏}‏ في آل عمران ‏(‏75‏)‏‏.‏

والأميّة وصف خص الله به من رسله محمداً، إتماماً للإعجاز العلمي العقلي الذي أيده الله به، فجعل الأمية وصفاً ذاتياً له، ليتم بها وصفه الذاتي وهو الرسالة، ليظهر أن كماله النفساني كمالٌ لدُنّي إلهي، لا واسطة فيه للأسباب المتعارفة للكمالات، وبذلك كانت الأمية وصف كمال فيه، مع أنها في غيره وصف نقصان، لأنه لمّا حصل له من المعرفة وسداد العقل ما لا يحتمل الخطأ في كل نواحي معرفة الكمالات الحق، وكان على يقين من علمه، وبينة من أمره، ما هو أعظم مما حصل للمتعلمين، صارت أميته آية على كون ما حصل له إنّما هو من فيوضات إلهية‏.‏

ومعنى‏:‏ يجدونه مكتوباً‏}‏ وجدان صفاته ونعوته، التي لا يشبهه فيها غيره، فجعلت خاصته بمنزلة ذاته‏.‏ وأطلق عليها ضمير الرسول النبي الأمي مجازاً بالاستخدام، وإنما الموجود نعته ووصفه، والقرينة قوله‏:‏ ‏{‏مكتوباً‏}‏ فإن الذات لا تكتب، وعُدل عن التعبير بالوصف للدلالة على أنهم يجدون وصفاً لا يقبل الالتباس، وهو‏:‏ كونه أمياً، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويُحل الطيبات، ويحرم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم، وشدة شريعتهم‏.‏

وذكرالإنجيل هنا لأنه منزل لِبني إسرائيل، وقد آمن به جمع منهم ومن جاء بعدهم من خلفهم، وقد أعلم الله موسى بهذا‏.‏

والمكتوب في التوراة هو ما ذكرناه آنفاً، والمكتوب في الإنجيل بشارات جمة بمحمد صلى الله عليه وسلم وفي بعضها التصريح بأنه يبعث بعثة عامة، ففي إنجيل متّى في الإصحاح الرابع والعشرين «ويقوم أنبياء كذَبةٌ كثيرون ويُضلون كثيرون، ولكن الذي يصبر إلى المنتهى ‏(‏أي يدوم شرعه إلى نهاية العالم‏)‏ فهذا يخلص ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى» ‏(‏أي منتهى الدنيا‏)‏، وفي إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر «وإما المُعزّي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلتُه لكم» ‏(‏ومعنى باسمي أي بمماثلتي وهو كونه رسولاً مشرعاً لا نبيّاً موكداً‏)‏‏.‏

وتقدم ذكر التوراة والإنجيل في أول سورة آل عمران‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يأمرهم بالمعروف‏}‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ «هي بيان للمكتوب عندهم ولا يجوز أن تكون حالاً من ضمير ‏{‏يجدونه‏}‏ لأن الضمير راجع للذكر والاسم‏.‏ والذكر والاسم لا يأمران» أي فتعين كون الضمير مجازاً، وكون الآمر بالمعروف هو ذات الرسول لا وصفه وذِكرُه، ولا شك أن المقصود من هذه الصفات تعريفهم بها؛ لتدلهم على تعيين الرسول الأمي عند مجيئه بشريعة هذه صفاتها‏.‏

وقد جعل الله المعروف والمنكر، والطيبات، والخبائث، والإصر والأغلال متعلقات لتشريع النبي الأمي وعلامات، فوجب أن يكون المراد منها ما يتبادر من معاني ألفاظها للأفهام المستقيمة‏.‏

فالمعروفُ شامل لكل ما تقبلُه العقول والفطر السليمة، والمنكر ضده، وقد تقدم بيانهما عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتْكُن منكم أمة يَدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏104‏)‏‏.‏

ويجمعها معنى‏:‏ الفطرة، التي هي قوام الشريعة المحمدية كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏، وهذه أوضح علامة لتعرف أحكام الشريعة المحمدية‏.‏

والطيبات‏:‏ جمع طيبة، وقد روعي في التأنيث معنى الأكِيلة، أو معنى الطُّعمة، تنبيهاً على أن المراد الطيبات من المأكولات، كما دل عليه قوله في نظائِرها نحو‏:‏ ‏{‏يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً‏}‏ في البقرة ‏(‏168‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏4‏)‏، وليس المراد الأفعال الحسنة؛ لأن الأفعال عُرّفت بوصف المعروف والمنكر‏.‏ والمأكولات لا تدخل في المعروف والمنكر، إذ ليس للعقل حظ في التمييز بين مقبُولها ومرفوضها، وإنما تمتلك الناسَ فيها عوائِدُهم، ولما كان الإسلام دينَ الفطرة ولا اعتداد بالعوائد فيه، ناط حال المأكولات بالطّيب وحرمتها بالخُبث، فالطّيب ما لا ضُر فيه ولا وخامَة ولا قذارة، والخبيثُ ما أضر، أوْ كان وَخيم العاقبة، أو كان مستقذراً لا يقبله العقلاء، كالنجاسة، وهذا ملاك المُباح والمحرم من المآكل، فلا تدخل العادات إلاّ في اختيار أهلها ما شاءوا من المباح، فقد كانت قريش لا تأكل الضب، وقد وُضع على مَائدة رسول الله فكره أن يأكل منه، وقال‏:‏ ما هو بحرام ولكنه لم يكن من طعام قومي فأجدني أعافُه ولهذا فالوجه‏:‏ إن كل ما لا ضر فيه ولا فساد ولا قذارة فهو مباح، وقد يكون مكروهاً اعتباراً بمضرة خفيفة، فلذلك ورد النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، ومحمله عند مالك في أشهر الروايات عنه، على الكراهة، وهو الذي لا ينبغي التردد فيه، وأي ضُر في أكل لحم الأسد، وكذلك إباحة أكل الخشاش والحشرات والزواحف البرية والبحرية، لاختلاف عوائِد الناس في أكلها وعدمه، فقد كانت جَرْم لا يأكلون الدجاج، وَفقعس يأكلون الكلب، فلا يحجر على قوم لأجل كراهية غيرهم مما كرهه ذوقه أو عادة قومه، وقد تقدم شيء من هذا في آية سورة المائِدة، فعلى الفقيه أن يقصر النظر على طبائِع المأكولات وصفاتها، وما جهلت بعض صفاته وحرمته الشريعة مثل تحريم الخنزير‏.‏

وَوْضع الإصر إبطال تشريعه، أي بنسخ ما كان فيه شدة من الشرايع الإلهية السابقة، وحقيقة الوضع الحط من علو إلى سفل، وهو هنا مجاز في إبطال التكليف بالأعمال الشاقة‏.‏

وحقه التعدية إلى المفعول الثاني بحرف ‏(‏في‏)‏ الظرفية، فإذا عُدي إليْه ب ‏(‏عن‏)‏ دل على نقل المفعول الأول من مدخول ‏(‏عن‏)‏ وإذا عدي إلى المفعول الثاني ب ‏(‏على‏)‏ كان دالاً على حط المفعول الأول في مدخول ‏(‏على‏)‏ حطا متمكناً، فاستعير يضعُ عنهم‏}‏ هنا إلى إزالة التكليفات التي هي كالإصر والأغلال فيشمل الوضْعُ معنى النسخ وغيره، كما سيأتي‏.‏

و«الإصر» ظاهر كلام الزمخشري في «الكشاف» و«الأساس» إنه حقيقة في الثّقل، ‏(‏بكسر الثاءِ‏)‏ الحسيّ بحيث يَصعب معه التحرك، ولم يقيده غيره من أصحاب دواوين اللغة، وهذا القيد من تحقيقاته، وَهو الذي جرى عليه ظاهر كلام ابن العربي في «الأحكام»، والمراد به هنا التكاليف الشاقة والحرج في الدين، فإن كان كما قيده الزمخشري يكن ‏{‏ويضع عنهم أصرهم‏}‏ تمثيلية بتشبيه حال المزال عنه ما يحْرجه من التكاليف بحال مَن كان محمّلاً بثقل فأزيل عن ظهره ثَقله، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحملون أوزارهم على ظهورهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 31‏]‏ وإن لم يكن كذلك كان «الإصر» استعارة مكنية ‏{‏ويضع‏}‏ تخييلاً، وهو أيضاً استعارة تبعية للإزالة‏.‏

وقد كانت شريعة التوراة مشتملة على أحكام كثيرة شاقة مثل العقوبة بالقتل على معاص كثيرة، منها العمل يومَ السبتتِ، ومثلُ تحريم مأكولات كثيرة طيبة وتغليظ التحريم في أمور هينة، كالعمل يوم السبت، وأشد ما في شريعة التوراة من الإصر أنها لم تشرع فيها التوبة من الذنوب، ولا استتابة المُجرم، والإصر قد تقدم في قوله تعالى‏:‏

‏{‏ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏286‏)‏ وقرأ ابن عامر وحده في القراءات المشهورة، ‏(‏آصارهم‏)‏ بلفظ الجمع، والجمع والإفراد في الأجناس سواء‏.‏

والأغلالُ‏}‏ جمع غُل بضم الغين وهو إطار من حديد يجعل في رقبة الأسير والجاني ويمسك بسير من جلد، أو سلسلة من حديد بيد المُوكّل بحراسة الأسير، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 71‏]‏ ويستعار الغُل للتكليف والعمل الذي يؤلم ولا يطاق فهوَ استعارة فإن بنيْنا على كلام الزَمخشري كان ‏{‏الأغلال‏}‏ تمثيلية بتشبيه حال المحرر من الذل والإهانة بحال من أطلق من الأسر، فتعيّن أن وضع الأغلال استعارة لما يعانيه اليهود من المذلة بين الأمم الذين نزلوا في ديارهم بعد تخريب بيت المقدس، وزوال ملك يهوذا، فإن الإسلام جاء بتسوية أتباعه في حقوقهم في الجامعة الإسلامية، فلا يبقى فيه مَيز بين أصيل ودخيل، وصميم ولصيق، كما كان الأمر في الجاهلية، ومناسبة استعارة الأغلال للذلة أوضح، لأن الأغلال من شعار الإذلال في الأسر والقود ونحوهما‏.‏

وهذان الوصفان لهما مزيد اختصاص باليهود، المتحدث عنهم في خطاب الله تعالى لموسى، ولا يتحققان في غيرهم ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن اليهود قد كان لهم شرع، وكان فيه تكاليف شاقة، بخلاف غير اليهود من العرب والفرس وغيرهم، ولذلك أضاف الله الإصر إلى ضميرهم، ووَصف الأغلال بما فيه ضميرهم، على أنك إذا تأملت في حال الأمم كلهم قبل الإسلام لا تجد شرائعهم وقوانينهم وأحوالهم خالية من إصر عليهم، مثل تحريم بعض الطيبات في الجاهلية، ومثل تكاليف شاقة عند النصارى والمجوس لا تتلاقى مع السماحة الفطرية، وكذلك لا تجدها خالية من رهق الجبابرة، وإذلال الرؤساء، وشدة الأقوياء على الضعفاء، وما كان يحدث بينهم من التقاتل والغارات، والتكايُل في الدماء، وأكلهم أموالهم بالباطل، فأرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم بديننِ من شأنه أن يخلص البشر من تلك الشدائِد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏ ولذلك فسرنا الوضع بما يَعم النسخ وغيره، وفسرنا الأغلال بما يخالف المراد من الأصر، ولا يناكد هذا ما في أديان الجاهلية والمجوسية وغيرها من التحلل في أحكام كثيرة، فإنه فساد عظيم لا يخفف وطأة ما فيها من الإصر، وهو التحلل الذي نظر إليه أبو خِراش الهُذلي في قوله، يَعْني شريعة الإسلام‏:‏

فليس كعهد الدار يا أم مالك *** ولكن أحَاطت بالرقاب السلاسل

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فالذين آمنوا به‏}‏ فاء الفصيحة، والمعنى‏:‏ إذا كان هذا النبي كما علمتم من شهادة التوراة والإنجيل بنبوءته، ومن اتصاف شرعه بالصفة التي سمعتم، علمتم أن الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا هديه، هم المفلحون‏.‏

والقصر المستفاد من تعريف المسند ومن ضمير الفصل قصر إضافي، أي هم الذين أفلحوا أي دون من كفر به بقرينة المقام، لأن مقام دعاء موسى يقتضي أنه أراد المغفرة والرحمة وكتابة الحسنة في الدنيا والآخرة لكل من اتبع دينه، ولا يريد موسى شمول ذلك لمن لا يتبع الإسلام بعد مجيء محمد صلى الله عليه وسلم ولكن جرى القصر على معنى الاحتراس من الإيهام، ويجوز أن يكون القصر ادعائياً، دالاً على معنى كمال صفة الفلاح للذين يتبعون النبي الأمي، ففلاح غيرهم من الأمم المفلحين الذين سبقوهم كلاَ فلاح، إذا نُسب إلى فلاحهم، أي إن الأمة المحمدية أفضل الأمم على الجملة، وإنهم الذين تنالهم الرحمة الإلهية التي تسع كل شيء من شؤونهم قال تعالى‏:‏

‏{‏وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏عزروه‏}‏ أيدوه وقّووْه، وذلك بإظهار ما تضمنته كتبهم من البشارة بصفاته، وصفات شريعته، وإعلان ذلك بين الناس، وذلك شيء زائِد على الإيمان به، كما فعل عبد الله بن سَلاَم، وكقول ورقة بن نوفل‏:‏ «هذا الناموس الذي أنزل على موسى»، وهو أيضاً مغاير للنصر، لأن النصر هو الإعانة في الحرب بالسلاح، ومن أجل ذلك عطف عليه ‏{‏ونصروه‏}‏‏.‏

واتّباع النور تمثيل للاقتداء بما جاء به القرآن‏:‏ شبه حال المقتدي بهدي القرآن، بحال الساري في الليل إذا رأى نوراً يلوح له اتّبعه، لعلمه بأنه يجد عنده منجاة من المخاوف وأضرار السير، وأجزاءُ هذا التمثيل استعارات، فالإتباع يصلح مستعاراً للاقتداء، وهو مجاز شائِع فيه، والنور يصلح مستعاراً للقرآن؛ لأن الشيء الذي يعلّم الحقّ والرشد يشبّه بالنور، وأحسن التمثيل ما كان صالحاً لاعتبار التشبيهات المفردة في أجزائه‏.‏

والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك هم المفلحون‏}‏ للتنويه بشأنهَم، وللدلالة على أن المشار إليهم بتلك الأوصاف صاروا أحرياء بما يخبر به عنهم بعد اسم الإشارة كقوله‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وفي هذه الآية تنويه بعظيم فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، ويُلحق بهم من نصر دينه بعدهم‏.‏